*فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ, عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: (ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ, وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ) قَالَ: (فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّذِي أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: فَإِنَّهُ مَا نَقَّصَ مَالَ عَبْدٍ صَدَقَةٌ, وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ بِمَظْلَمَةٍ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا؛ إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عِزًّا, وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابَ فَقْرٍ, وَأَمَّا الَّذِي أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ) فَإِنَّهُ قَالَ: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ) قَالَ: (فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ) قَالَ: (وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا) قَالَ: (فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ, عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ) قَالَ: (فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ) قَالَ: (وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا, فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ, لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ, وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ, فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ) قَالَ: (وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا, فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ) قَالَ: (هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ, مِنْهَا: أَنَّ الزَّكَاةَ تُنَمِّي مَالَ الْمُزَكِّي إِذَا أَخْرَجَهَا الْعَبْدُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ عَلَى الظُّلْمِ حَمِيدَةٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ التَّسَوِّلِ بِسُؤَالِ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ, فَقَدْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابًا كَبِيرًا مِنْ أَبْوَابِ الْفَقْرِ.
وَمِنْهَا: عِظَمُ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالصَّدَقَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ هَمَّ بِصَلَاةٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ أَيَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ؛ بَلَّغَهُ اللهُ تَعَالَى مَا نَوَى.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِالنِّيَّةِ قَوْلٌ أَوْ عَمَلٌ تَأَكَّدَ الْجَزَاءُ، وَالْتَحَقَ صَاحِبُهُ بِالْعَامِلِ، وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُهُ: (فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ) عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي أَصْلِ أَجْرِ الْعَمَلِ، دَوْنَ مُضَاعَفَتِهِ، فَالْمُضَاعَفَةُ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ عَمِلَ الْعَمَلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ فَلَمْ يَعْمَلْهُ، فَإِنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَكُتِبَ لِمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ خِلَافُ النُّصُوصِ كُلِّهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: الْقَاعِدُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الْمُجَاهِدُونَ دَرَجَةً هُمُ الْقَاعِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، وَالْقَاعِدُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الْمُجَاهِدُونَ دَرَجَاتٍ هُمُ الْقَاعِدُونَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكَهَا خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى أَوْ رَجَاءَ ثَوَابِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ لِلْمَعْصِيَةِ بِهَذَا الْقَصْدِ عَمَلٌ صَالِحٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ، ثُمَّ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، أَوْ مُرَاءَاةً لَهُمْ؛ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْمَعْصِيَةِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّيَاءَ وَتَقْدِيمَ خَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى خَوْفِ اللهِ تَعَالَى؛ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ.
*فَمِنَ الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ: أَنَّ مَنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا أَمْكَنَهُ، ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى نِيَّتِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا, فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَذَا الْقَاتِلُ, فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ).
وَمِنْهَا: أَنَّ الْهَامَّ بِالْمَعْصِيَةِ إِذَا تَكَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ بِلِسَانِهِ؛ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا الْهَمِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ مَعْصِيَةً؛ فَتَّكَلَّم بِلِسَانِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قُوْلُهُ: (لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ) يَعْنِي: الَّذِي يَعْصِي اللهَ تَعَالَى فِي مَالِهِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ).
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا مَرَّةً، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى فَعْلِهِ مَتَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمُعَاقَبٌ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى عَمَلِهِ إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ, وَبِهَذَا فَسَّرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ الْإِصْرَارَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.