اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا .

09:08 صباحًا , السبت 3 يونيو 2023

التوفيق

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
 *فَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ, هُوَ: أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَأَنَّ الْخُذْلَانَ, هُوَ: أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، فَالْعَبِيدُ مُتَقَلِّبُونَ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخُذْلَانِهِ، بَلِ الْعَبْدُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ يَنَالُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَيُطِيعُهُ وَيُرْضِيهِ وَيَذْكُرُهُ وَيَشْكُرُهُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ، ثُمْ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَغْفَلُ عَنْهُ بِخُذْلَانِهِ لَهُ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخُذْلَانِهِ، فَإِنْ وَفَّقَهُ فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ خَذَلَهُ فبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى هَذَا وَهَذَا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَسَاسُ كُلِّ خَيْرٍ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ, وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ الْحَسَنَاتِ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ, فَتَشْكُرُهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهَا, وَتَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ أَنْ لَا يَقْطَعَهَا عَنْكَ, وَأَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ عُقُوبَتِهِ, فَتَبْتَهِلُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا, وَأَنْ لَا يَكِلَكَ فِي فِعْلِ الْحَسَنَاتِ, وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ إِلَى نَفْسِكَ, وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ إِيَمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِيَدِ رَبِّهِ تَعَالَى فَلَوْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ, وَوَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ، لَضَلَّ وَزَلَّ، وَلَفقَدَ إِيمَانَهُ وَسُلِبَ تَوْحِيدُهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْمَلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ شَيْئًا, أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى عَبْدِهِ: نِعْمَةَ التَّوْفِيقِ, فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ, قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ عَبْدِهِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وَأَسْبَابُ التَّوْفِيقِ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: الْافْتِقَارُ إِلَى اللهِ, وَالْالْتِجَاءُ إِلَيْهِ، وَصِدْقُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ إِلَيْهِ، وَسُؤَالُهُ التَّوْفِيقَ, وَالْاسْتِعَاذَةُ بِهِ مِنَ الْخُذْلَانِ، فَمَتَى أَعْطَى اللهُ تَعَالَى الْعَبْدَ هَذَا الْمِفْتَاحَ، فَقَدْ فَتَحَ لَهُ بَابَ التَّوْفِيقِ، وَمَتَى أَضَلَّهُ اللهُ عَنْهُ، بَقِيَ بَابُ التَّوْفِيقِ دُونَهُ مُغْلَقًا, فَفِي النَّسَائِيِّ, كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِي بِأَنْ يُقَالَ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ, أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ).
وَمِنْهَا: التَّبَرُّؤُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ, فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ تَعَالَى, فَإِنْ نسِيَ ذَلِكَ وَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى, أَوْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ, فَرَآهَا أَهْلًا لِلنَّجَاحِ مِنْ غَيْرِ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى لَهَا, خَابَ وَخَسِرَ فِي سَعْيِهِ, وَلَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ صَاحِبَ الْجَنَّتَيْنِ, وَكَيْفَ كَانَتْ نِهَايَةُ هَذَا الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ, فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ ذَلِكَ دَائِمًا, وَأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهُ مَا مِنْ نِعْمَةٍ تَحْصُلُ لَهُ, سَوَاءً كَانَتْ عِلْمًا, أَوْ مَنْصِبًا, أَوْ شَهَادَةً دِرَاسِيَّةً, أَوْ تِجَارَةً, أَوْ قُوَّةً, أَوْ جَاهًا, فَإِنَّهَا مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ, وَأَنَّهُ لَوْلَا اللهُ تَعَالَى, مَا تَقَدَّمَ خُطْوَةً وَاحِدَةً نَحْوَ النَّجَاحِ, وَلَا يَعْنِي ذَلِكَ تَرْكُ الْأَسْبَابِ, فَإِنَّ بَذْلَ الْأَسْبَابِ فِي تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ, قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: فَالْالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ, وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ, وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُعْتَمِدًا عَلَى اللهِ لَا عَلَى سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ, وَاللهُ يُيَسِّرُ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا يُصْلِحُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَقْدُورَةً لَهُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَا؛ فَعَلَهَا مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ كَمَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ, وَكَمَا يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ, وَيَحْمِلُ السِّلَاحَ, وَيَلْبَسُ جُنَّةَ الْحَرْبِ، وَلَا يَكْتَفِي فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ عَلَى مُجَرَّدِ تَوَكُّلِهِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَمَنْ تَرَكَ الْأَسْبَابَ الْمَأْمُورَ بِهَا فَهُوَ عَاجِزٌ مُفَرِّطٌ مَذْمُومٌ.

*فَمِنْ أَسْبَابِ التَّوْفِيقِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ الْعِنَايَةُ بِهَا, وَالْاجْتِهَادُ فِي تَحْصِيلِهَا: بَذْلُ الْأَسْبَابِ فِي الْفَوْزِ بِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ يَكُونُ بِإِتْقَانِ الْفَرَائِضِ, وَأَدَاءِ النَّوَافِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ, فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ حَازَ عَلَى كُلِّ تَوْفِيقٍ وَفَضِيلَةٍ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا, كَمَا جَاءَ فِي الْبُخَارِيِّ, فِيمَا يَرْوِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ, وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ, وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا, وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ, وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).
بواسطة : المشرف العام
 0  0  1.7K
التعليقات ( 0 )