*فَإِنَّ مَعْرِفَةَ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ مِنْ صَمِيمِ مَعْرِفَةِ الْعَقِيدَةِ، وَمَعْرِفَةُ الْعَقِيدَةِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَهْتَمَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ، كَمَا اهْتَمَّ بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللهُ، أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ لَا يُهَوِّنُ مِنْ شَأْنِ الْعَقِيدَةِ وَيُقَلِّلُ مِنْهَا، أَوْ يَرَى أَنَّ غَيْرَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى مِنْهَا، إِلَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ, أَوْ هُوَ مِمَّنْ تَأَثَّرَ بِبَعْضِ الْمَنَاهِجِ الْمُبْتَدَعَةِ, وَسَأَذْكُرُ لَكُمْ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ أَشْهَرَ عَشَرَةِ نَوَاقِضَ لِلْعَقِيدَةِ ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ:
النَّاقِضُ الْأَوَّلُ: الشِّرْكُ فِي عِبَادَةِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وَمِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ: الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ, وَدُعَاءُ غَيْرِ اللهِ؛ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، كَطَلَبِ الشِّفَاءِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ الْاسْتِعَانَةُ وَالْاسْتِعَاذَةُ وَالْاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِ الله، فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى, وَمِنَ الشِّرْكِ كَذَلِكَ طَاعَةُ الْمَخْلُوقِينَ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللهُ, وَتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَهَذَا فِيمَا يَعْلَمُ الْمُطِيعُ أَنَّ الْمُطَاعَ مُخْطِئٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمُحَلٍّلُ وَالْمُحَرِّمُ, قَالَ تَعَالَى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله).
النَّاقِضُ الثَّانِي: مَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَسَائِطَ؛ يَدْعُوهُمْ وَيَسْأَلُهُمُ الشَّفَاعَةَ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ؛ كَأَنْ يَدْعُوَ الْمَيِّتَ أَوْ صَاحِبَ الْقَبْرِ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ، اشْفَعْ لِي عِنْدَ اللهِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْقُلُ حَوَائِجَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى.
النَّاقِضُ الثَّالِثُ: مَنْ لَمْ يُكَفِّرِ الْمُشْرِكِينَ, أَوْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ, أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ هُمْ جَمِيعُ الْكَفَرَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ وَالشِّيُوعِيِّينَ وَالْمَلَاحِدَةِ وَغَيْرِهِمْ, قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ هُوَ: بُغْضُ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَمُعَادَاتُهُمْ, وَتَكْفِيرُهُمْ, وَمُقَاتَلَتُهُمْ عِنْدَ مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ.
النَّاقِضُ الرَّابِعُ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ غَيْرَ هَدْيِ الْإِسْلَامِ يُسَاوِي هَدْيَ الْإِسْلَامِ أَوْ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْهُ؛ كَالَّذِينَ يُفَضِّلُونَ حُكْمَ الطَّوَاغِيتِ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ.
النَّاقِضُ الْخَامِسُ: مَنْ أَبْغَضَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ عَمِلَ بِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).
النَّاقِضُ السَّادِسُ: مَنِ اسْتَهْزَأَ بِشَيءٍ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ ثَوَابِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ عِقَابِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
النَّاقِضُ السَّابِعُ: السِّحْرُ؛ وَمِنْهُ الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ، فمَنْ فَعَلَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) وَالصَّرْفُ, هُوَ: صَرْفُ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا، أَوِ الزَّوْجُ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ طَرِيقِ السِّحْرِ، وَالْعَطُفُ بِالْعَكْسِ.
النَّاقِضُ الثَّامِنُ: مُظَاهَرَةُ الْمُشْرِكِينَ؛ أَيْ مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ, قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وَالْمُظَاهَرَةُ وَالْمُعَاوَنَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ, وَلَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْمُوَلَاةَ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَوَّلًا: التَّوَلِّي؛ وَهُوَ رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ, وَضَابِطُهُ: مَحَبَّةُ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ, أَوْ نُصْرَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ قَاصِدًا بِذَلِكَ ظُهُورَ الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ.
ثَانِيًا: الْمُوَلَاةُ؛ وَهِيَ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ, وَيُخْشَى عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْكُفْرِ, وَضَابِطُهَا: أَنْ تَكُونَ مُعَاوَنَتُهُ لِلْكُفَّارِ لِأَجْلِ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا, وَلَا يَقْصِدُ بِهَذِهِ الْمُعَاوَنِةِ ظُهُورَ الْكُفْرِ عَلَى الْإِسْلَامِ, مَعَ بُغْضِهِ لِدِينِ الْكُفَّارِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ, وَإِنْ كَانَ لَهُ مَقْصَدٌ آخَرُ فَلَهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْمَقْصَدِ.
وَلَيْسَ مِنْ مُوَلَاةِ الْكُفَّارِ التَّعَامُلُ مَعَهُمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِيجَارِ وَالْاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ, عَلَى أَنْ لَا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
النَّاقِضُ التَّاسِعُ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا يَسَعُهُ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَسِعَ الْخِضْرَ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وَذَلِكَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ, قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا).
النَّاقِضُ الْعَاشِرُ: الْإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَتَعَلَّمُهُ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ).
*فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ إِذَا وَقَعَ بِنَاقِضٍ مِنْ هَذِهِ النَّوَاقِضِ أَوْ غَيْرِهَا, فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ؛ إِلَّا إِذَا انْطَبَقَتْ عَلَيْهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ؛ وَمِنْ أَهَمِّهَا الْعِلْمُ بِأَنَّ هَذَا الْفَعْلَ مُكَفِّرٌ، فَلَوْ كَانَ الشَّخْصُ جَاهِلًا; فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ كَذَلِكَ مَعَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ مِنَ انْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، فَلَوْ قَامَ الشَّخْصُ بِمَا يَقْتَضِي الْكُفْرَ إِكْرَاهًا أَوْ ذُهُولًا لَمْ يَكْفُرْ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ) وَلِقَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي وَجَدَ دَابَّتَهُ فِي مَهْلَكَةٍ: (اللَّهُمَّ, أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ; أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ.