*فَإِنَّ الرُّكْنَ الْأَوَّلَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ هُوَ الشَّهَادَتَانِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ, وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ الْأَسَاسُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهِ سَائِرُ أَحْكَامِ الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَسَاسُ سَلِيمًا؛ اسْتَقَامَتْ سَائِرُ الْأَعْمَالِ, وَانْتَفَعَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَإِنِ اخْتَلَّ هَذَا الْأَسَاسُ فَسَدَتْ سَائِرُ الْأَعْمَالِ وَصَارَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا؛ تَعَبًا عَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا, وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ الشَّهَادَتَيْنِ لَهُمَا مَعْنًى, وَلَهُمَا مُقْتَضَى، وَلَا بُدَّ لِلنَّاطِقِ بِهِمَا أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ الْمَعْنَى, وَيَعْمَلَ بِذَلِكَ الْمُقْتَضَى؛ وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَنْفُعُهُ مُجَرَّدُ التَّلَفُّظِ بِهِمَا, فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, هُوَ: الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ بَاطِلٌ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) وَمُقْتَضَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, هُوَ: أَنْ تُفْرِدَ اللهَ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ, وَتُعْلِنَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ, وَتَلْتَزِمَ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَتَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ, وَتَتْرُكَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ, قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, فَهِمُوا مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُمْ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ, وَتَرْكَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ, فَامْتَنَعُوا مِنْ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةِ, وَاسْتَنْكَرُوهَا, وَقَالُوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) وَعُبَّادُ الْقُبُورِ الْيَوْمَ لَا يَفْهَمُونَ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَلَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهَا، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَعْبُدُونَ الْمَوْتَى، وَيَقُولُونَ: يَا عَلِيٌّ, يَا حُسَيْنُ, يَا عَبْدَ الْقَادِرِ؛ فَيُنَادُونَ هَؤُلَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرَهُمْ, وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ فِي قَضَاءِ الْحَاجَاتِ, وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ, وَيَطُوفُونَ بِقُبُورِهِمْ, وَيَذْبَحُونَ لَهُمْ, فَالْمُشْرِكُونَ الْأَوَّلُونَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَأَعْلَمُ مِنْهُمْ بِمُقْتَضَاهَا (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَمِنْ مُقْتَضَى شَهَادَةِ أَنْ إِلَهَ إِلَّا اللهُ: أَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ, وَتَصُومَ رَمَضَانَ, وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا, وَأَنْ تَفْعَلَ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ, وَتَتْرُكَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ, فَقَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى, وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ, وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَكَمَا أَنَّ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ يُنَاقِضُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَيُنَافِيهَا, كَذَلِكُمْ سَائِرُ الْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ دُونَ الشِّرْكِ فَهِيَ تُنْقِصُ مُقْتَضَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ, وَتُقَلِّلُ مِنْ ثَوَابِهَا, بِحَسَبِ الذَّنْبِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَيَعْلَمَ مَعْنَاهَا, وَيَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا, ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَسْتَقِيمَ عَلَيْهَا حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (شَهِدَ بِالْحَقِّ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَيْ بِقُلُوبِهِمْ مَا قَالَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ, فَاتَّقُوا اللهُ عِبَادَ اللهِ وَاعْرِفُوا مَعْنَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ, وَاعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهَا, فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا: مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِهَا, مِنْ غَيْرِ فَهْمِ مَعْنَاهَا, وَاعْتِقَادِ مَدْلُولِهَا, وَالْعَمَلِ بِهِ, فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُجْدِي.
*فَإِنَّ مَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ, هُوَ: الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ فِي الْقَلْبِ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَتَلَخَّصُ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَاجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَأَنْ لَا يُعْبَدَ اللهَ إِلَّا بِمَا شَرَعَ؛ فَإِذَا شَهِدْتَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ, وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُطِيعَهُ فِيمَا يَأْمُرُكَ بِهِ، وَأَنْ تَجْتَنِبَ مَا يَنْهَاكَ عَنْهُ، وَأَنْ تُصَدِّقَهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى, وَعَنِ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَأَنْ لَا تَتَقَرَّبَ بِشَيءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا كَانَ مُوافِقًا لِشَرِيعَتِهِ؛ فَيَتَحَتَّمُ عَلَيْكَ تَرْكُ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ, مَهْمَا بَلَغَ قَائِلُهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، فَكُلٌّ مِنَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: كُلُّنَا رَادٌّ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ، يَعْنِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: عَجِبْتُ لِقَوْمِ عَرَفُوا الْإِسْنَادَ وَصِحَّتَهُ يَذْهَبُونَ إِلَى رَأْيِ سُفْيَانَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَتَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ؟ الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ، لَعَلَّهُ إِذَا رَدَّ بَعْضَ قَوْلِهِ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ شَيءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلِكَ, وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).