النذور

*فَلَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ شَيءٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى أَوْ أَرَادَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْبَعْضَ مِنَّا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرُهُ اللهُ لَهُمْ، أَوْ يَدْفَعُونَ بِهِ شَيْئًا قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ؛ فَيُعَلِّقُونَ فِعْلَ الطَّاعَةِ عَلَى تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ, أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ؛ كَقَوْلِ النَّاذِرِ: إِنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي لَأَصُومَنَّ شَهْرًا، أَوْ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِكَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِنَذْرِ الْمُجَازَاةِ وَالْمُعَاوَضَةِ, أَوْ بِنَذْرِ التَّبَرُّرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ؛ وَهُوَ مِنَ الْعَادَاتِ الْمَكْرُوهَةِ, وَالْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَنْذُرُوا؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ).
وَالنَّذْرُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَجُرُّ لِلنَّاذِرِ نَفْعًا، وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ ضَرًّا، وَلَا يُغَيِّرُ قَضَاءً، وَلَا يَرُدُّ قَدَرًا، لَكِنْ مَتَى أدْرَكَ النَّاذِرُ مَا أَمَّلَهُ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ.
وَيَنْقَسِمُ النَّذْرُ إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلِ: النَّذْرُ الْمُطْلَقُ؛ كَأَنْ يَقُولَ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَا يُسَمِّي شَيْئًا، فَهَذَا تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَّارَةُ النَّذْرِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ).
الْقِسْمُ الثَّانِي: نَذْرُ اللِّجَاجُ وَالْغَضَبُ؛ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِنَذْرِهِ الْحَثَّ، أَوِ الْمَنْعَ، أَوِ التَّصْدِيقَ، أَوِ التَّكْذِيبَ، فَالْحَثُّ؛ كَأَنْ يَقُولَ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا إِنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا، وَالْمَنْعُ؛ كَأَنْ يَقُولَ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا إِنْ فَعَلْتَ كَذَا، وَالتَّصْدِيقُ؛ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ غَيْرَ صَحِيحٍ؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا, وَالتَّكْذِيبُ؛ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ صَحِيحًا؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، وَهُوَ قَصَدَ الْحَثَّ، أَوِ الْمَنْعَ، أَوِ التَّصْدِيقَ، أَوِ التَّكْذِيبَ، وَلَمْ يَقْصِدْ النَّذْرَ, فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَبَيْنَ أَنْ يُكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمُبَاحِ؛ وَهُوَ مُخَيَّرٌ أَيْضًا بَيْنَ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ, وَبَيْنَ أَنْ يُكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ, وَنَذْرُ الْمُبَاحِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ نَجَحْتُ فِي الْاخْتِبَارِ؛ لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَرْكَبَ سَيَّارَةَ فُلَانٍ, أَوْ لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً وَأَدْعُوَ لَهَا زُمَلَائِي؛ إِنْ كَانَ يَقْصِدُ إِكْرَامَ زُمَلَائِهِ, لَكِنْ لَوْ قَالَ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ نَجَحْتُ فِي الْاخْتِبَارِ أَنْ أَذْبَحَ شَاةً يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّصَدُّقَ بِلَحْمِهَا؛ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ نَذْرِ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ نَذْرِ الطَّاعَةِ، كَمَا سَيَأْتِي.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: نَذْرُ الْمَكْرُوهِ؛ كَأَنْ يَنْذُرَ قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهُ, أَوْ صِيَامَ السَّنَةِ كُلِّهَا, فَيُكْرَهُ لَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ, وَيَتَحَلَّلُ مِنْ هَذَا النَّذْرِ بِكَفَّارَةِ يَمِينٍ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ؛ كَأَنْ يَنْذُرَ بِأَنْ يَقْطَعَ رَحِمَهُ، أَوْ يَصُومَ يَوْمَ الْعِيدِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ؛ وَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ، وَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ لِمَا فِي أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ, وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ).
الْقِسْمُ السَّادِسُ: نَذْرُ الطَّاعَةِ؛ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَأْثَمْ لَوْ لَمْ يَفِ بِهِ، سَوَاءً كَانَ مُطْلَقًا, كَأَنْ يَقُولَ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا، كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللهُ تَعَالَى مَرِيضِي؛ فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِمَا فِي الْبُخَاريِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ, وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ) وَيَدْخُلُ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ؛ وَعْدُ الْعَبْدِ رَبَّهُ بِفِعْلِ طَاعَةٍ عِنْدَ حُصُولِ غَرَضِهِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ سَلَّمَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ؛ لَا أَصُومَنَّ شَهْرًا؛ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ النَّذْرِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: لِلهِ عَلَيَّ نَذْرٌ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ اللهَ تَعَالَى بِفِعْلِ طَاعَةٍ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُخْلِفُ مَا وَعَدَ بِهِ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) وَنَذْرُ الطَّاعَةِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ؛ فَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَيَأْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ لِلنَّذْرِ.
وَمَنْ نَذَرَ مَا يَعْجَزُ عَنْ فِعْلِهِ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ, لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؛ فَفِي أَبِي دَاوُدَ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: (مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ؛ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ).

*فَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ, وَاحْذَرُوا النُّذُورَ الَّتِي تُكَلِّفُكُمْ مَا لَا تُطِيقُونَ، وَاسْتَجْلِبُوا النِّعَمَ, وَاسْتَدْفِعُوا النِّقَمَ؛ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالدُّعَاءِ, فَإِنَّهُ لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ النَّذْرَ عِبَادَةٌ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَصَرْفُهَا لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ وَأَكْبَرِ الْإِثْمِ, وَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى شَيْئًا, وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *