*فَإِنَّ مِنْ أَبْرَزِ الْقَضَايَا الْاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي اعْتَنَى بِهَا الْإِسْلَامُ؛ قَضِيَّةَ الزَّوَاجِ وَذَلِكَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَهُوَ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ لِبِنَاءِ الْحَيَاةِ، وَتَكْوِينِ الْأُسَرِ، وَتَأْسِيسِ الْفَضَائِلِ، وَدَحْرِ الرَّذَائِلِ، وَبِهِ تَتَعَارَفُ الْقَبَائِلُ، وَتَتَكَوَّنُ الشُّعُوبُ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَتِهِ، وَالدَّاعِيَةِ إِلَى التَّفْكِيرِ فِي عَظِيمِ خَلْقِهِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وَفِي أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ) وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إِلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ أَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا, وَلِي طَوْلٌ عَلَى النِّكَاحِ؛ لَتَزَوَّجْتُ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ) وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: (لَيْسَتِ الْعُزُوبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيءٍ، وَمَنْ دَعَاكَ إِلَى غَيْرِ الزَّوَاجِ؛ دَعَاكَ إِلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ مِنَ الْمَشَاكِلِ الْاجْتِمَاعِيَّةِ الْخَطِيرَةِ الَّتِي خَيَّمَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ مُشْكِلَةَ الْعُنُوسَةِ وَتَأَخُّرَ سِنِّ الزَّوَاجِ، وَهَذِهِ الْمُشْكِلَةُ لَهَا أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: انْخِدَاعُ كَثِيرٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ الْمُوَجَّهِ ضِدَّ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْلَاقِهِمْ، مِنْ أَفْلَامٍ وَقَصَصٍ وَدِعَايَاتٍ، يَبُثُّهَا أَعْدَاءُ الْأُمَّةِ بِقَصْدِ الْإِطَاحَةِ بِكَيَانِهَا، وَإِفْسَادِ مُجْتَمَعَاتِهَا، مِنْ إِثَارَةٍ لِلْغَرَامِ بَيْنَ الْفِتْيَانِ وَالْفَتَيَاتِ، وَتَحْذِيرِ الْفَتَاةِ مِنَ الزَّوَاجِ الْمُبَكِّرِ، وَتَضْخِيمِ أَمْرِ الدِّرَاسَةِ وَالْوَظِيفَةِ، حَتَّى إِذَا كَبُرَتِ الْفَتَاةُ، وَذَهَبَتْ نَضَارَتُهَا، وَذَبُلَتْ زَهْرَةُ شَبَابِهَا، عَزَفَ عَنْهَا الْخُطَّابُ، فَلَا يَكُونُ أَمَامَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا: الطُّرُقُ الْمُلْتَوِيَةُ وَالسُّبُلُ الْمُحَرَّمَةُ, إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ تَفَشِّي ظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ: تَغَالِي الْأَوْلِيَاءِ فِي مُهُورِ بَنَاتِهِمْ، فَيَتَكَلَّفُ الشَّابُّ مِنَ الْمَهْرِ مَالَا يُطِيقُ، فِي أُمُورٍ لَا طَائِلَ مِنْ وَرَائِهَا، وَلَرُبَّمَا تَسَبَّبَتْ فِي أَنْ يَكْرَهَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِسَبَبِ مَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الدُّيُونِ, فَفِي ابْنِ مَاجَهْ, قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَا تُغَالُوا صَدَاقَ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوًى عِنْدَ اللَّهِ, كَانَ أَوْلَاكُمْ وَأَحَقَّكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مَا أَصْدَقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ, وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُثَقِّلُ صَدَقَةَ امْرَأَتِهِ, حَتَّى يَكُونَ لَهَا عَدَاوَةٌ فِي نَفْسِهِ, وَيَقُولُ: قَدْ كَلِفْتُ إِلَيْكِ عَلَقَ الْقِرْبَةِ, أَوْ عَرَقَ الْقِرْبَةِ).
وَمِنْ أَسْبَابِ تَفَشِّي ظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ: أَنَّ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ يَرْفُضُونَ تَزْوِيجَ الشَّابِ الصَّالِحِ الْمُكَافِحِ بِسَبَبِ ضَعْفِ وَظِيفَتِهِ أَوْ تِجَارَتِهِ، مُتَنَاسِينَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٍ عَرِيضٍ) وَلَقَدْ تَعَهَّدُ اللهُ لِلْفَقِيرِ الْمُرِيدِ لِلزَّوَاجِ إِعْفَافًا لِنَفْسِهِ بِالْغِنَى, فَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أَلَا وَإِنَّهُ لَيَجْدُرُ التَّنْبِيهُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وُجُوبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الشَّابِّ الْمُكَافِحِ فِي تِجَارَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ, قَلِيلَتَي الدَّخْلِ الْمَادِّيِّ, وَبَيْنَ الشَّابِ الْكَسُولِ الَّذِي لَا نَهْمَةَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ أَهْلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ الْكِرَامُ مِنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا عَلَى نَفَقَاتِ الْمُحْسِنِينَ, وَغَالِبًا مَا يَسِيرُ بِأُسْرَتِهِ نَحْوَ التَّشَرُّدِ وَالضَّيَاعِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ تَفَشِّي ظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ: ضَعْفُ التَّدَيُّنِ عِنْدَ بَعْضِ النِّسَاءِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَبَرُّجِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ، فَيَزْهَدُ بِالتَّالِي بِهَا الْكَثِيرُ مِنْهُمْ.
وَمِنْ أَسْبَابِ تَفَشِّي ظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ: مَا انْتَشَرَ مُؤَخَّرًا عِنْدَ الْبَعْضِ، مِنْ عَضْلِ الْبَنَاتِ وَمَنْعِهِنَّ مِنَ الزَّوَاجِ طَمَعًا فِي الْمُرَتَّبِ الَّذِي يَحْصُلْنَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَظِيفَةِ، فَتَعْمَلُ الْمَرْأَةُ وَتَكْدَحُ، وَوَلِيُّهَا يَتَفَكَّهُ بِمَالِهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّ الدُّنْيَا بِكُنُوزِهَا وَأَمْوَالِهَا لَا تُسَاوِي شَيْئًا إِذَا أَصْبَحَتِ ابْنَتُهُ عَانِسًا أَوْ وَقَعَتْ فِي مَحْظُورٍ:
أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ لَا بَارَكَ اللهُ بَعْدَ الْعِرْضِ بِالْمَالِ
*فَإِنَّ مِمَّا يُسْهِمُ فِي التَّخْفِيفِ مِنْ خَطَرِ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ: تَيْسِيرَ أُمُورِ الزَّوَاجِ, وَتَخْفِيفَ الْمُهُورِ, وَتَزْوِيجَ الْأَكْفَاءِ، وَتَرْسِيخَ الْمَعَايِيرِ الشَّرْعِيَّةِ لِاخْتِيَارِ الزَّوْجَيْنِ، وَمُجَانَبَةَ الْأَعْرَافِ وَالْعَادَاتِ الدَّخِيلَةِ عَلَى مُجْتَمَعِنَا، وَقِيَامَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ بِوَاجِبِهَا التَّرْبَوِيِّ وَالتَّوْجِيهِيِّ، وَالْحَثَّ عَلَى تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ لِلْمُسْتَطِيعِ الَّذِي يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْحَيْفِ وَالظُّلْمِ, قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُواْ) وَفِي الْمُسْنَدِ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يَا سَعِيدُ أَلَكَ امْرَأَةٌ؟) قُلْتُ: لَا، قَالَ: (تَزَوَّجْ, فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ أَكَثَرُهُمْ نِسَاءً).