*فَإِنَّ مِمَّا رَغَّبَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ: الزَّوَاجَ, فَقَالَ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وَهَذَا التَّرْغِيبُ بِالزَّوَاجِ إِنَّمَا هُوَ لِأَهْدَافٍ سَامِيَةٍ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلزَّوْجَيْنِ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً، يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَيَنْتَهُونَ عَنْ نَوَاهِيهِ، فَتَكُونُ أَعْمَالُ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فِي مِيزَانِ أَعْمَالِ وَالِدَيْهِمْ, فِفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) وَاللهُ تَعَالَى أَمَرَ الْوَالِدَيْنِ بِأَنْ يَجْعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللهِ وِقَايَةٌ, فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَذَابِ اللهِ وِقَايَةً إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقِي أَهْلَهُ هَذِهِ النَّارَ إِلَّا بِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
وَسَأَذْكُرُ لَكُمْ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضًا مِنَ أَهَمِّ الْأُسُسِ فِي بِنَاءِ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الصَّالِحَةِ:
أَوْلًا: اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) وَكَذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَارَ صَاحِبَ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، فَفِي التِّرْمِذِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ, إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ).
ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْوَالِدَانِ قُدْوَةً حَسَنَةً لِأَوْلَادِهِمَا، فِي الْعِبَادَةِ وَالْخُلُقِ وَالْمُعَامَلَةِ؛ فَإِنَّ الْأَوْلَادَ يَتَطَبَّعُونَ بِطِبَاعِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا الْأَبُ، وَخَاصَّةً فِي الصِّغَرِ، كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ.
ثَالِثَا: مُتَابَعَةُ الْوَالِدَيْنِ لِأَوْلَادِهِمَا، وَمَعْرِفَةُ أَيْنَ وَكَيْفَ يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ، وَالْاطْمِئْنَانُ إِلَى صَلَاحِ أَصْحَابِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، وَعَلَيْهِمَا أَنْ لَا يَبْخَلَا بِوَاجِبِ النَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَأَنْ لَا يَكْسَلَا فِي إِرْشَادِهِمْ لِلَّذِي هُوَ أَصْلَحُ، فَإِنَّ الْأَوْلَادَ أَمَانَةُ فِي أَعْنَاقِهِمَا سَيُسْأَلَانِ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُمُ الثَّرْوَةُ الْكُبْرَى الَّتِي إِذَا ضَاعَتْ فَقَدْ ضَاعَ مِنَ الْإِنْسَانِ خَيْرٌ كَبِيرٌ.
رَابِعًا: الرِّفْقُ بِالْأَوْلَادِ حَتَّى فِي حَالِ الْخَطَأِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الرِّفْقَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّرْبِيَةِ، وَالشِّدَّةُ إِنَّمَا هِيَ اسْتِثْنَاءٌ، فَلَا يُلْجَأُ إِلَيْهَا إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ, وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ, وَمَا لَا يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ) وَكَمْ يَحْتَاجُ أَوْلَادُنَا - حَتَّى الْكِبَارَ مِنْهُمْ - إِلَى الْعَطْفِ وَالْحَنَانِ مِنَّا، وَأَنْ نُظْهِرَ لَهُمْ أَلْوَانَ الْوِدِّ وَالْحُبِّ، وَصُنُوفَ الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَلَا سِيَّمَا الْبَنَاتِ مِنْهُمُ؛ ابْتِدَاءً بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَمُرُورًا بِالْابْتِسَامَةِ الْكَرِيمَةِ، وَانْتِهَاءً بِالْمُعَانَقَةِ الرَّحِيمَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِلْحِفَاظِ عَلَيْهِمْ؛ لِئَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى خَارِجِ دَائِرَةِ الْأُسْرَةِ, بَحْثًا عَنْ مَنْ يُعَوِّضُهُمْ هَذَا الْحَنَانَ, أَوْ يُبُوحُوا بِمَا يَجُولُ فِي صُدُورِهِمْ، إِذَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْأُسْرَةِ أُذُنًا مُصْغِيَةً، أَوْ قَلْبًا حَانِيًا، أَوْ لِسَانًا عَذْبًا، فَإِنَّ الْإِهْمَالَ أَوِ الْغَفْلَةَ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُ أَهَمِّ الْأَسْبَابِ فِي انْحِرَافِ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ، وَوُقُوعِهِمْ فِي مَهَاوِي الْفَسَادِ وَالْعِصْيَانِ، وَسُقُوطِهِمْ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ.
*فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَجْمُوعُونَ بِصَعِيدٍ وَاحِدٍ, يَنْفُذُكُمُ الْبَصَرُ, وَيُسْمِعُكُمُ الدَّاعِي، أَلا وَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَالسَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.