*فَلَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْبُيُوتَ سَكَنًا يَأْوِي إِلَيْهَا أَهْلُهَا، فَيَسْتَتِرُونَ بِهَا مِمَّا يُؤْذِي الْأَعْرَاضَ وَالنُّفُوسَ، وَيَتَخَفَّفُونَ فِيهَا مِنْ أَعْبَاءِ الْحِرْصِ وَالْحَذَرِ, وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا حِينَ تَكُونُ الْبُيُوتُ مُحْتَرَمَةً فَلَا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
وَفِي أَبِي دَاوُدَ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ, وَيَقُولُ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ, السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ, أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِشْطٌ يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ؛ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ).
وَعَلَى الْمُسْتَأْذِنِ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, فِإِنْ أُذِنَ لَهُ وِإِلَّا رَجَعَ, وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثٍ إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ سُمِعَ صَوْتُهُ, وَإِلَّا زَادَ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ سُمِعَ, وَيَقُولُ فِي اسْتِئْذَانِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَفِي أَبِي دَاوُدَ, اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ, فقال: أألج؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: (اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الْاسْتِئْذَانَ, فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟) فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَرِّكَ نَعْلَهُ فِي اسْتِئْذَانِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ حَتَّى إِلَى بَيْتِهِ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَ بَغْتَةً, وَقَالَ مَرَّةً: إِذَا دَخَلَ يَتَنَحْنَحُ.
وَمِنْ آدَابِ الْاسْتِئْذَانِ الَّتِي يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا: أَنَّ الطَّارِقَ إِذَا سُئِلَ عَنِ اسْمِهِ فَلْيُبَيِّنْهُ، وَلْيَذْكُرَ مَا يُعْرَفُ بِهِ, وَلَا يُجِيبُ بِمَا فِيهِ غُمُوضٌ أَوْ لَبْسٌ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, أَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي, فَدَقَقْتُ الْبَابَ, فَقَالَ: (مَنْ ذَا؟) فَقُلْتُ: أَنَا, فَقَالَ: (أَنَا أَنَا) كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
وَمِنْ آدَابِ الْاسْتِئْذَانِ كَذَلِكَ: قَرْعُ الْبَابِ بِرِفْقٍ وَلِينٍ, مِنْ غَيْرِ إِزْعَاجٍ أَوْ إِيذَاءٍ, وَلَا يَفْتَحِ الْبَابَ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أُذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فَلْيَتَرَيَّثْ، وَلَا يَسْتَعْجِلْ فِي الدُّخُولِ، رَيْثَمَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ الْبَيْتِ مِن فَسْحِ الطَّرِيقِ، وَلَا يَرْمِ بِبَصَرِهِ هُنَا وَهُنَاكَ، فَمَا جُعِلَ الْاسْتِئْذَانُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ.
وَمِنْ آدَابِ الْاسْتِئْذَانِ كَذَلِكَ: أَنَّ الْأَعْمَى يَسْتَأْذِنُ كَالْبَصِيرِ، فَلَرُبَّمَا أَدْرَكَ الْأَعْمَى بِسَمْعِهِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَصِيرُ بِبَصَرِهِ.
وَمِنْ آدَابِ الْاسْتِئْذَانِ كَذَلِكَ: وُجُوبُ الْاسْتِئْذَانِ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ غَرِيبٍ, رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً, فَفِي الْمُوَطَّأِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: (نَعَمْ) قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا, أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟) قَالَ: لَا, قَالَ: (فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا).
وَمِنْ آدَابِ الْاسْتِئْذَانِ كَذَلِكَ: أَنَّ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ أَنْ يَقُولَ لِلزَّائِرِ: ارْجِعْ, فَلِلنَّاسِ أَسْرَارَهُمْ وَأَعْذَارَهُمْ، وَهُمْ أَدْرَى بِظُرُوفِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) وَعَلَى الْمُسْتَأْذِنِ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ عَلَى أَخِيهِ شَيءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْخَيْرِ لَكَ وَلِصَاحِبِكَ أَيُّهَا الطَّارِقُ، أَنْ يَعْتَذِرَ عَنِ اسْتِقْبَالِكَ, بَدَلًا مِنَ الْإِذْنِ لَكَ عَلَى كَرَاهِيَةٍ وَمَضَضٍ، وَلَوْ تَأَدَّبَ النَّاسُ بِهَذَا الْأَدَبِ, وَتَعَامَلُوا بِهَذَا الْوُضُوحِ؛ لَاجْتَنَبُوا كَثِيرًا مِنْ سُوءِ الظَّنِّ فِي إِخْوَانِهِمْ.
*فَاتَّقُوا اللهَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَمْسِكُوا بِآدَابِ دِينِكُمْ، وَحَافِظُوا عَلَى مَشَاعِرِ إِخْوَانِكُمْ، وَاخْتَارُوا أَوْقَاتَ الزِّيَارَةِ الْمُنَاسِبَةِ، وَقَدِّرُوا لِإِخْوَانِكُمْ أَحْوَالَهُمْ وَظُرُوفَهُمْ، وَالْتَمِسُوا لَهُمُ الْأَعْذَارَ, وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ الدَّقِيقَةَ فِي آدَابِ الْاسْتِئْذَانِ لَتُؤَكَّدُ تَأْكِيدًا شَدِيدًا عَلَى حُرْمَةِ الْبُيُوتِ، وَلُزُومِ حِفْظِ أَهْلِهَا مِنْ حَرَجِ الْمُفَاجَآتِ، وَعَنَتِ الْمُبَاغَتَاتِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَاتِ الَّتِي لَا يُرْغَبُ فِي أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا أَحَدٌ سَوَاءً كَانَتْ مِنْ أَحْوَالِ الْبَدَنِ، وَصُنُوفِ الطَّعَامِ وَاللَّبَاسِ وَسَائِرِ الْمَتَاعِ، بَلْ حَتَّى عَوْرَاتِ الْمَشَاعِرِ وَالْحَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ، كَحَالَاتِ الْخِلَافِ الْأُسَرِيِّ، وَحَالَاتِ الْبُكَاءِ وَالْغَضَبِ وَالتَّوَجُّعِ وَالْأَنِينِ وَغَيْرِهَا.