*فَإِنَّ مِنْ مَكَارِمِ الْأخْلَاقِ, وَأَعْظَمِ الصِّفَاتِ, التِي دَعَا إِلَيْهَا الإسْلَامُ: حِفْظَ الْأمَانَةِ, وَأَدَاءَهَا إلَى أَصْحَابِهَا, فَقَالَ تَعَالَى: (إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (آَيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ, وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) وَبِهَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي عَلَاقَاتِهِ مَعَ الْكُفَّارِ, فَقَالَ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَأْتِي يَوْمٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَمَانَةُ, فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا, وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ, ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ, وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ, ثُمَّ حَدَّثَنَا عَن رَفْعِ الْأَمَانَةِ, فَقَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ, فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ, فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ) – وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ- إلَى أَنْ قَالَ: (فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ, فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ, حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِينًا, حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ, مَا أَظْرَفَهُ, مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا فِي قِلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْأَمَانَةُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَجِيدَةِ, وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ, التِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً فِيمَنْ يَتَوَلَّى أَيْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ, فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مُخْلِصًا, يُقَدِّمُ المَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ الْفِئَوِيَّةِ, وَأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ صِفَةٌ أُخْرَى كَذَلِكَ وَهِيَ الْقُوةُ؛ بِأَنْ يَكُونَ كُفْئًا قَادِرًا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ, كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِ إِحْدَى ابْنَتَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِأَبِيهَا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأَجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَيْسَتِ الْأَمَانَةُ فِي مَعْنَاهَا مَقْصُورَةً عَلَى حِفْظِ الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ فَحَسْبُ, بَلْ هِيَ أَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعَمُّ؛ إِذْ هِيَ تَشْمَلُ الْأُمُورَ الحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةِ, فَالْعَدْلُ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ, وَالْأَوْلَادِ, وَالزَّوْجَةِ, وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَمَانَةِ, وَقَوْلُ كَلَمَةِ الْحَقِّ مِنَ الْأَمَانَةِ, وَالشَّهَادَةُ, وَالتَّزْكِيَةُ لِلنَّاسِ, مِنَ الْأَمَانَةِ, وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ, وَحُرُمَاتِهِمْ, وَأَخْلَاقِهِمْ مِنَ الْأَمَانَةِ, وَبِالْجُمْلَةِ: فَحِفْظُ الدِّينِ بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ وَزَوَاجِرَ, هُوَ مِنَ الْأَمَانَةِ التِي اسْتَرْعَانَا اللهُ تَعَالَى إِيْاهَا, وَعَلَى هَذَا فُسِّرَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: (إِنَّا عَرَضْنا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) وَالْأَمَانَةُ هُنَا: رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ, التي مَنْ قَامَ بِهَا أُثِيبَ, وَمَنْ تَرَكَهَا عُوقِبَ, فَقَبِلَهَا الْإنْسَانُ عَلَى ضَعْفِهِ, وَجَهْلِهِ, وَظُلْمِهِ.
*فَاتَّقُوا اللهَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاعْلَمُوا أنَّ مِنْ أَخْطَرِ الْخَطَرِ, انْتِشَارَ الرِّشْوَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ تَضْيِيعِ الْأَمَانَةِ التِي أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِحِفْظِهَا, فَهِيَ سَبَبٌ لِأَخْذِ حُقُوقِ الْآخَرِينَ, وَأَدَاةٌ لِشِرَاءِ ذِمَمِ النَّاسِ, وَطَرِيقٌ فَجٌّ لِهَدْمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ, فَالذِي يَشْتَرِي ضَمَائِرَ النَّاسِ, يَبِيعُ ضَمِيرَهُ, وَالذِي يُغْرِي النَّاسَ, بِمَالٍ, أَوْ جَاهٍ, وَنَحْوِهِمَا, يَبِيعُ وَطَنَهُ وَمُجْتَمَعَهُ.
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا, فَقَدْ كَانَتِ الرِّشْوَةُ فِي الْإِسْلَامِ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ, وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قَانُونِ الْبَشَرِ, وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ النَّبَوِيُّ فِي هَذَا وَاضِحًا سَاطِعًا, لَا يَقْبَلُ تَحْرِيفًا وَلَا تَأْوِيلًا, فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ ثَوْبَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الرَّاشِيَ, وَالْمُرْتَشِيَ, وَالرَّائِشَ. يَعْنِيْ: الذِي يَمْشِيْ بَيْنَهُمَا.
أَلَا وَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ اسْمِهَا لَا يُغَيِّرُ مِنَ الْحَقِيقَةِ شَيْئًا؛ كَتَسْمِيَةِ الرَّشُوَةِ بِالْهَدِيَّةِ, أَوِ الْعَطِيَّةِ, أَوْ الْمُسَاعَدَةِ, أَوِ الْإِعَانَةِ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ, وَالْعِبْرَةُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَمَخْبَرِهِ, وَإِنْ زُيِّنَ فِي شَكْلِهِ وَمَظْهَرِهِ.
اترك تعليقاً