*فَلَقَدْ جَاءَ دِينُ الإسْلامِ آمِرًا أتْبَاعَهُ بِالبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ, وَتَأْكِيدًا لِهَذَا التَّمَيُّزِ لِلْمُسْلِمِينَ, فَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتْبَاعِ سَبِيلِ الكَافِرِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ).
وَإنَّ مَفْهُومَ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى صُوَرٍ مَحْدُودَةٍ, بَلْ هُنَاكَ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ لِلتَّشَبُّهِ المَذْمُومِ, وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ المُزْرِيَةِ التِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الإيْمَانِ اجْتِنَابُهَا, وَالتَّحْذِيرُ مِنْهَا:
رَفْعُ لِوَاءِ القَوْمِيَاتِ المَقِيتَةِ, وَالوَطَنِيَّاتِ الضَّيِّقَةِ, وَالعَصَبِيَّاتِ العَشَائِرِيَّةِ, التِي جَعَلَتِ المُسْلِمِينَ شُعُوبًا, وَفَرَّقَتْهُمْ أُمَمًا.
وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: تَبَرُّجُ النِّسَاءِ، وَهَذَا مِن أَفْتَكِ الأَمْرَاضِ الخُلُقِيَّةِ التِي تُبْتَلَى بِهَا الأُمَمُ, وَتَنْهَارُ بِسَبَبِهَا الحَضَارَاتُ، وَتَبَرُّجُ النِّسَاءِ سِمَةٌ لِلكُفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٌ السِّبَاقُ المَحْمُومُ الذِي تَتَسَابَقُهُ كَثِيرٌ مِن النِّسَاءِ لَهْثًا وَرَاءَ مَوْضَاتِ الغَرْبِ, وَرَكْضًا فِي كَشْفِ مَا أُمِرَتِ المَرْأَةُ بِسِتْرِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ.
وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: الاحْتِفَالُ وَالاحْتَفَاءُ بِأَعْيَادِ الكُفَّارِ, وَكَذَا الأَيَّامُ وَالأَسَابِيعُ التِي ابْتَدَعُوهَا، وَهِيَ مِمَّا تَسَاهَلَ فِيهِ بَعْضُ المُسْلِمِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ الاحْتِفَالُ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ, وَالْاحْتِفَالُ بِلَيْلَةِ الإسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَكَذَلِكَ الأَعْيَادُ الوَطَنِيَّةُ وَالقَوْمِيَّةُ, التِي تَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ آخَرَ، وَكَذَا أَعْيَادُ المِيْلادِ, وَرَأسُ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ, بَلْ وَصَلَ الأَمْرُ إلَى أَنْ تَجِدَ البَعْضَ مِنَّا يَسْتَسْهِلُ تَهْنِئَةَ الكُفَّارِ بِأَعْيَادِهِمْ وَمُنَاسَبَاتِهِمْ، قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأمَّا التَّهْنِئَةُ بِشَعَائِرِ الكُفْرِ المُخْتَصَّةِ بِهِ فَحَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ, مِثْلَ أنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأَعْيَادِهِمْ وَصَوْمِهِمْ, فَيَقُولُ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ, أَوْ تَهْنَأُ بِهَذَا العِيدِ وَنَحْوِهِ, فَهَذَا إنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِن الكُفْرِ, فَهُوَ مِن المُحَرَّمَاتِ, وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أنْ يُهَنِّئَهُ بِسُجُودِهِ لِلصَّلِيبِ، بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا عِنْدَ اللهِ، وَأَشَدَّ مَقْتًا مِن التَّهْنِئَةِ بِشُرْبِ الخَمْرِ, وَقَتْلِ النَّفْسِ, وَارْتِكَابِ الفَرْجِ الحَرَامِ وَنَحْوِهِ) انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: تَقْلِيدُ الكُفَّارِ بِلِبَاسِهِمْ، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، فَأَلْوَانُهُ شَتَّى، وَنَمَاذِجُهُ هُنَا وَهُنَاكَ، وَإنَّكَ لَتَأْسَى حِينَمَا تَرَى عَدَدًا مِن شَبَابِ الأُمَّةِ الذِينَ هُمْ أَمَلُهَا بَعْدَ اللهِ يَتَشَبَّهُونَ بِالكُفَّارِ فِي لِبَاسِهِمْ، وَيَعُدُّونَهَا تَحَضُّرًا, وَأَنَاقَةً, وَمَدَنِيَّةً, وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ ثَوْبَينِ مُعَصْفَرَينِ, فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إنَّ هَذِهِ ثِيَابُ الكُفَّارِ فَلا تَلْبَسْهَا) وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بِأَذَرْبِيجَانَ: (إيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ, وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ).
وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: تَعَلُّمُ لُغَةِ الكُفَّارِ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ لَا مِنْ أَجْلِ الدَّعْوَةِ إلَى دِينِ الإسْلامِ، وَالسَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللهُ كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّكَلُّمَ بِغَيرِ العَرَبِيَّةِ أَشَدَّ الكَرَاهِيَةَ وَيَنْهَونَ عَنْهُ, إلَّا إذَا كَانَ فِي تَعَلُّمِهَا مَصْلَحَةٌ وَحَاجَةٌ فَهَذَا جَائِزٌ.
وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: حَلْقُ اللِّحَى وَإِعْفَاءُ الشَّوَارِبِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (جُزُّوا الشَّوَارِبَ, وَأَرْخُوا اللِّحَى, خَالِفُوا المَجُوسَ).
ألَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أنَّ المُشَابَهَةَ فِي الظَّاهِرِ تُورِثُ نَوْعَ مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ وَمُوَالَاةٍ فِي البَاطِنِ, كَمَا أنَّ المَحَبَّةَ فِي البَاطِنِ تُورِثُ المُشَابَهَةَ فِي الظَّاهِرِ, وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُ بِهِ الحِسُّ وَالتَّجْرُبَةُ, حَتَّى إنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا كَانَا مِنْ بَلَدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اجْتَمَعَا فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ فَإنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَهُمَا شَيءٌ كَبِيرٌ مِن المَوَدَّةِ وَالمُوَالَاةِ وَالْائْتِلافِ, وَلَوْ كَانَا فِي بَلَدِهِمَا مُتَخَاصِمَينِ؛ وَذَلِكَ لِأنَّ الاشْتِرَاكَ فِي البَلَدِ نَوْعُ وَصْفٍ اخْتَصَا بِهِ عَنْ بَلَدِ الغُرْبَةِ, بَلْ لَوْ اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ أَوْ بَلَدٍ غَرِيبٍ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي اللِّبَاسِ, أوْ الشَّعْرِ, أوْ المَرْكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ, لَكَانَ بَيْنَهُمَا مِن الائْتِلَافِ أَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَ غَيْرِهِمَا, وَهَذَا كُلُّهُ بِمُوجِبُ الطِّبَاعِ وَمُقْتَضَاهَا, إلَّا أنْ يَمْنَعَ عَنْ ذَلِكَ دِينٌ أوْ غَرَضٌ خَاصٌّ, فَإذَا كَانَتِ المُشَابَهَةُ فِي أُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ تُورِثُ المَحَبَّةَ وَالمُوَالَاةَ, فَكَيْفَ بِالمُشَابَهَةِ فِي أُمُورٍ دِينِيَّةٍ؟!!
*فَإنَّ المُسْلِمِينَ هُمْ أَهْدَى الْخَلِيقَةِ طَرِيقًا, وَأَقْوَمُهُمْ سَبِيلًا, وَأَرْشَدُهُمْ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ سُلُوكًا، وَقَدْ أَقَامَهُمُ اللهُ تَعَالَى مَقَامَ الشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَمِ كُلِّهَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فَكَيْفَ يَتَنَاسَبُ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ المُسْلِمُونَ أَتْبَاعًا لِغَيْرِهِمْ من الأُمَمِ، يُقَلِّدُونَهُمْ فِي عَادَاتِهِمْ، وَيُحَاكُونَهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ؟!!
وَلَابُدَّ قَبْلَ الخِتَامِ مِن التَّنْبِيِهِ إلِى أَنَّ المَنْهِيَّ عَنِ التَّشَبُّهِ فِيهِ مِن أَعْمَالِ وَأَخْلَاقِ الكَافِرِينَ هُوَ مَا يَكُونُ بِسَبَبِهِ انْدِثَارُ الدِّينِ وَالقَضَاءُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَفَسَادُ الأَخْلَاقِ, أَوْ يَتَعَارَضُ مَعَ أَحْكَامِ الإِسْلَامِ، أَوْ فِيهِ ذِلَّةٌ وَاسْتِكَانَةٌ وَاحْتِقَارٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْإسْلامُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ, كَالمَشَارِيِعِ التِي تَعُودُ بِالخَيْرِ, وَالفَائِدَةِ عَلَى الإسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ فِي المَجَالِ الصِّنَاعِيِّ وَالتُّكْنُولُوجِيِّ وَالْخِبْرَاتِ المِهَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
اترك تعليقاً