القصد القصد تبلغوا

*فَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: )لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلَا أَنَا, إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ, وَإنَّ الدِّينَ يُسْرٌ, وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ, فَسَدِّدُوا, وَقَارِبُوا, وَأَبْشِرُوا, وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ, وَالرَّوْحَةِ, وَشَيْءٍ مِن الدُّلْجَةِ, وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا, وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ, التِي يُبْنَى عَلَيْهَا النَّجَاةُ, وَالْفَلَاحُ, أَنْ يُوقِنَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ بِعَمَلِهِ مَهْمَا عَظُمَ هَذَا الْعَمَلِ, فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ – وَإنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الفَاعِلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ – إِلَّا أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ هُوَ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ وَإِعَانَتِهِ, وَلِذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ بِسَبَبِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ, فَالطَّاعَاتُ إِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ لِنَيْلِ رَحْمَةِ اللهِ، وَرَحْمَةُ اللهِ قَرِيبٌ مِن الْمُحْسِنِينَ, وَأَمَّا دُخُولُ الْجَنَّةِ فَإنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ اللهِ وَفَضْلِهِ.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ لَا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ مَهْمَا عَظُمَ, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَهْمَا كَانَ عُلُوُّ صَلَاحِهِ وَكَثْرَةُ طَاعَاتِهِ, فَإنَّهُ لَا يَخْلُو مِن ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ أَوْ غَفْلَةٍ, وَلَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَهُ بِأَحَدِهَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ, وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (وَإنَّ الدِّينَ يُسْرٌ) أَيْ مُيَسَّرٌ, مُسَهَّلٌ فِي عَقَائِدِهِ, وَأَخْلَاقِهِ, وَأَعْمَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ) فَمَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ, وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا اكْتَفَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَلَا بِمَا عَلَّمَهُ لِلْأُمَّةِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، بَلْ غَلَا فِي العِبَادَاتِ, وَتَكَلَّفَ فَوْقَ مَا يُطِيقُ وَعَسَّرَ عَلَى نَفْسِهِ: فَإنَّ الدِّينَ يَغْلِبُهُ، وَآخِرُ أَمْرِهِ إِلَى الْعَجْزِ وَالْانْقِطَاعِ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (فَسَدِّدُوا, وَقَارِبُوا, وَأَبْشِرُوا) فَالتَّسْدِيدُ هُوَ إصَابَةُ الْعَبْدِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ, فَإنَّ لَمْ يُدْرِكِ السَّدَادَ وَالْكَمَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلْيَتَّقِ اللهِ مَا اسْتَطَاعَ, وَهِيَ الْمُقَارَبَةُ, وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْعَمَلِ كُلِّهِ فَلْيَعْمَلْ مِنْهُ مَا يَسْتَطِيعُهُ, وَلْيُبْشِرِ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ عَلَى الْعَمَلِ الدَّائِمِ وَإنْ قَلَّ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ, وَالرَّوْحَةِ, وَشَيْءٍ مِن الدُّلْجَةِ) فَالْغَدْوَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالرَّوْحَةُ: آخِرُهُ، وَالدُّلْجَةُ: آخِرُ سَاعَةٍ مِن اللَّيْلِ، وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ هِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ, وَهِيَ أَفْضَلُ الْأَوْقَاتِ لِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ فِي الْأَسْفَارِ الْحِسِّيَّةِ، مَعَ رَاحَةِ الْمُسَافِرِ وَرَاحِلَتِهِ، وَهِيَ كَذَلِكَ أَيْضًا أَفْضَلُ الْأوْقَاتِ لِقَطْعِ السَّفَرِ إلَى الدَّارِ الآخِرَةِ، وَالسَّيْرِ إلَى اللهِ سَيْرًا جَمِيلًا, وَمَتَى مَا أَشْغَلَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي هَذِهِ الْأوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ: حَصَلَ لَهُ مِن البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ أَكْمَلَ حَظٍّ، وَأَوْفَرَ نَصِيبٍ، وَتَمَّ لَهُ النَّجَاحُ, وَالْفَلَاحُ, فِي رَاحَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ.

*فَقَدْ خَتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هِذِهِ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةَ بِوَصِيَّةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى النُّفُوسِ، وَهِيَ غَايَةٌ فِي النَّفْعِ, فَقَالَ: (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ, أَيْ المُعْتَدِلَ مِن الْأَعْمَالِ, الذِي لَا يَمِيلُ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) لِأَنَّ الْمُدَاوِمَ عَلَى طَاعَةَ اللهِ، مُلَازِمٌ لِعَتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ يَطْرُقُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا, فَحَرِيٌّ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ طَرَقَ طَرْقًا عَنِيفًا, ثُمَّ انْصَرَفَ, فَحَرِيٌّ أَلَّا يُفْتَحَ لَهُ, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَزْهِيدٌ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ, لَكِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا كَانَ خَالِصًا لِلهِ, وَعَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا, فَاقْتَصِدُوا رَحِمَكُمُ اللهُ فِي الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ وَأَحْسِنُوهَا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ وَحَقِّقُوهَا, مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ, وَخَوْفِهِ, وَإِجْلَالِهِ, وَتَعْظِيمِهِ, وَفِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ, وَالتَّعَلُّقِ بِهِ, وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *