*فَيُعَانِي الْبَعْضُ مِنَّا؛ مِنَ الْوَسَاوِسِ الشَّيْطَانِيَّةِ, الَّتِي تُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ صَفْوَ الْعِبَادَةِ وَالْحَيَاةِ, وَالشَّيْطَانُ بِطَبِيعَتِهِ يُوَسْوِسُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ, لَكِنِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الطَّبِيعِيِّ, وَالْإِنْسَانِ الْمُبْتَلَى بِالْوَسَاوِسِ: هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ إِذَا اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, زَالَ عَنْهُ مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ, لَكِنِ الْمُبْتَلَى بِالْوَسَاوِسِ إِذَا اسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, انْخَنَسَ الشَّيْطَانُ, لَكِنْ تَبْدَأُ نَفْسُ الْمُبْتَلَى بِالْوَسَاوِسِ بِالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ بِمَا وَسْوَسَ بِهِ الشَّيْطَانُ, وَلَا تَهْدَأُ هَذِهِ النَّفْسُ حَتَّى يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ مَا وَسْوَسَ بِهِ الشَّيْطَانُ, أَوْ يُعْرِضَ الإِنْسَانُ عَنْ التَّفْكِيرِ بِهَذَا الأَمْرِ نِهَائِيًّا, فَإِنِ اسْتَمَرَّ الْمُبْتَلَى فِي التَّفْكِيرِ بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ فِعْلٍ لَهُ, أَوْ تَجَاهُلٍ لَهُ, فَسَتَظَلُّ هَذَهِ الْفِكْرَةُ تُلِحُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْعَلَهَا؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِمَنْ بُلِيَ بِالْوَسَاوِسِ: (فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتِهِ) وَلَمْ يَكْتِفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِإِرْشَادِنَا بِالْاسْتِعَاذَةِ فَقَطْ؛ بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ: أَمَرَنَا بِالْانْتِهَاءِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيمَا يُوَسْوِسُ فِيهِ الشَّيْطَانُ نِهَائِيًّا, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنْ الشَّيْطَانَ يَسْعَى جَاهِدًا فِي أَنْ يَعِيشَ الْمُؤْمِنُ فِي قَلَقٍ, وَحُزْنٍ, وَكَآبَةٍ بِأَسَالِيبَ شَتَّى؛ وَمِنْ ضِمْنِهَا الْوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِيَّةُ. بَقِيَ السُّؤَالُ الْمُهِمُّ: مَا هُوَ الْعِلَاجُ الْأَمْثَلُ لِمَرَضِ الْوَسَاوِسِ؟
لَا يَكْتَمِلُ الْعِلَاجُ مِنَ الْوَسَاوِسِ إِلَّا إِذَا بُنِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ مُهِمَّةٍ:
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مِنْ أَرْكَانِ الْعِلَاجِ: التَّجَاهُلُ التَّامُ لِجَمِيعِ الْوَسَاوِسِ, وَالْأَفْكَارِ الشَّيْطَانِيَّةِ, صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا, وَعَدَمُ الْالْتِفَاتِ إِلَيْهَا نِهَائِيًّا, وَيَجِبُ أَلَّا يَكْتِفِي الْمُبْتَلَى بِأَنْ لَا يَفْعَلَ مَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِ الْوَسَاوِسُ فَقَطْ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ التَّفْكِيرِ أَبَدًا بِهَذِهِ الْوَسَاوِسِ؛ فَمَثَلًا لَوْ تَوَضَّأَ, ثُمَّ أَحَسَّ بِخُرُوجِ شَيءٍ مِنْهُ, فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يَلْتَفِتَ لِهَذَا الْإِحْسَاسِ نَهَائِيًّا, بَلْ يَذْهَبُ إِلَى الصَّلاةِ مُبَاشَرَةً, كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يُحَاوِلَ إِقْنَاعَ نَفْسِهِ بِعَدَمِ انْتِقَاضِ طَهَارَتِهِ؛ لَأَنَّ مُحَاوَلَةَ إِقْنَاعِ نَفْسِهِ بِعَدَمِ انْتِقَاضِ طَهَارَتِهِ؛ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْوَسْوَاسِ؛ يَجِبُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَبَدًا, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ أَفْضَلَ عِلَاجٍ لِلْوَسَاوِسِ يَكُونُ بِتَجَاهُلِ الْفِكْرَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ, وَلَوْ كُنْتَ مُقْتَنِعًا بِصِحَّتِهَا؛ لِكَيْ يَتَعَوَّدَ الْمُبْتَلَى عَلَى الصُّمُودِ أَمَامَ الْفِكْرَةَ الْمُلِحَّةِ؛ مِمَّا يَجْعُلُ الْإِلْحَاحَ يَخِفُّ تَدْرِيجِيًّا إِلَى أَنْ يَزُولَ نِهَائِيًّا بِإِذْنِ اللهِ.
الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْعِلَاجِ: الْمُوَاجَهَةُ وَعَدَمُ الْفِرِارِ؛ بِأَنْ يُوَاجِهَ الْمُبْتَلَى الْفِكْرَةَ الْوَسْوَاسِيَّةَ بِكُلِّ شَجَاعَةٍ, وَيُلْغِي فِكْرَةَ الْهَرَبِ نِهَائِيًّا, ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْمُوَاجَهَةِ, فَكَمْ هَرَبَ الْمُبْتَلَى مِنَ الْوُضُوءِ أَمَامَ النَّاسِ, وَمِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلْيُعْلَمَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَمَرَّ الْمُبْتَلَى فِي هُرُوبِهِ عِشْرِينَ سَنَةً, فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ عَشْرِينَ سَنَةً أَيْضًا, فَالْمُوَاجَهَةُ حَتْمِيَّةٌ مَهْمَا طَالَ الزَّمَنُ, وَسِيَاسَةُ الْمُوَاجَهَةُ تَكُونُ بِاسْتِخْدَامِ قَاعِدَةِ: (أَبْدَأُ، وَأَسْتَمِرُّ، وَأُكْمِلُ) فَلَوْ أَرَدْتَ الْوُضُوءَ مَثَلًا؛ فَبَدَأَ الشَّيْطَانُ بِتَخْوِيفِكَ, فَهُنَا إِيَّاكَ مِنَ الْانْسِحَابِ, بَلْ طَبِّقْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِسُرْعَةٍ وَابْدَأِ الْوُضُوءَ مُبَاشَرَةً وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ, ثُمَّ تَمَضْمَضْ, وَاسْتَنْشِقْ, وَهَكَذَا حَتَّى تُنْهِي الْوُضُوءَ، فَإِنْ ضَغَطَ عَلَيْكَ الْوِسْوَاسُ لِكَيْ تَقْطَعَ الْوُضُوءَ فَاسْتَمِرَّ فِيهِ, وَلَا تُبَالِي بِهِ, فَإِنِ اسْتَمَرَّ ضَغْطُ الْوَسْوَاسِ عَلَيْكَ فَأَكْمِلِ الْوُضُوءَ حَتَّى النِّهَايَةَ, وَبِهَذَا تَكُونُ قَدْ أَنْهَيْتَ الْوُضُوءَ كَامِلًا, ثُمَّ اذْهَبْ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَإِنْ جَاءَكَ الْوَسْوَاسُ يُخَوِّفُكَ مِنْهَا؛ فَطَبِّقْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ: (أَبْدَأُ، وَأَسْتَمِرُّ، وَأُكْمِلُ) مَرَّةً أُخْرَى, وَوُضُوئُكَ وَصَلَاتُكَ صَحِيحَانِ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْعِلَاجِ: الصُّمُودُ وَالثَّبَاتُ, وَالْمَقْصُودُ بِهِمَا أَمْرَانِ: أَوَّلًا: هُوَ صُمُودُ الْمُبْتَلَى عَلَى تَجَاهُلِ الْفِكْرَةِ الْوَسْوَاسِيَّةِ, وَعَدَمِ تَنْفِيذِهَا, أَوْ حَتَّى التَّفْكِيرَ بِهَا. ثَانِيًا: الاسْتِمْرَارُ بِالْعِبَادَةِ وَعَدَمُ قَطْعِهَا مَهْمَا وَاجَهَ الْمُبْتَلَى مِنْ أَفْكَارٍ. وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ أَهَمُّ أَرْكَانِ الْعِلَاجِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَرْكَانِ تَسْتَنِدُ عَلَيْهِ؛ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ تَجَاهُلٌ, وَمُوَاجَهَةٌ فَعَّالَةٌ, مَعَ عَدَمِ الثَّبَاتِ وَالصُّمُودِ, بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ أَحَسَّ الْمُبْتَلَى بِخُرُوجِ شَيءٍ مِنْهُ, وَتَجَاهَلَ الْفِكْرَةَ, وَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا, وَبَدَأَ الْوَسْوَاسُ يَضْغَطُ عَلَيْهِ وَيَشْتَدُّ, وَالْمُبْتَلَى لَا يَلْتَفِتُ لِذَلِكَ, وَلَكِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِشَلَ فِي الصُّمُودِ وَالثَّبَاتِ؛ فَذَهَبَ وَغَيَّرَ مَلَابِسَهُ؛ فَسَيَكُونُ الْمُبْتَلَى قَدْ فَشِلَ فِي رُكْنَيْنِ كَامِلَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْعِلَاجِ وَهُمَا الصُّمُودُ وَالتَّجَاهُلُ, وَلِكَيْ يَسْتَطِيعُ الْمُبْتَلَى أَنْ يَصْمُدَ أَمَامَ الْأَفْكَارِ الشَّيْطَانِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ دَائِمًا أَنَّ النَّصْرَ لِمَنْ يَصْبِرُ فِي اللَّحَظَاتِ الْأَخِيرَةِ, فَرُبَّمَا يَصْمُدُ الْإِنْسَانُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ, وَلَا يَبْقَى سِوَى لَحَظَاتٍ يَسِيرَةٍ, وَيَنْهَارُ الْوَسْوَاسُ, وَلَكِنَّ الْمُبْتَلَى يَكُونُ هُوَ السَّابِقُ فِي الْانْهِيَارِ, وَلِذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِالصُّمُودِ حَتَّى يُكْمِلَ الْعِبَادَةَ التِي هُوَ فِيهَا, وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ الصُّمُودُ حَتَّى تَتَلَاشَى الْفِكْرَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ الْمُلِحَّةُ عَلَى نَفْسِهِ نِهَائِيًّا.
*فَمِنَ الْمُهِمِّ بَعْدَ تَطْبِيقِ أَرْكَانِ الْعِلَاجِ الثَّلَاثَةِ؛ الْاسْتِمْرَارُ عَلَى هَذَا الْعِلَاجِ, وَعَدَمُ قَطْعِهِ, وَلْيُعْلَمَ أَنَّهُ بَعْدَ تَطْبِيقِ هَذَا الْعِلَاجِ, سَيَشْعُرُ الْمُبْتَلَى بِالرَّاحَةِ, وَقَدْ يَجْلِسُ يَوْمًا, أَوْ يَوْمِينِ, أَوْ أَكْثَرَ؛ بَلَا وَسَاوِسَ؛ لَأَنَّ الْوَسْوَاسَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَقُومُ بِالْابْتِعَادِ الْكُلِّيِّ عَنِ الْمُبْتَلَى؛ لَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُوَاجَهَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ؛ بِسَبَبِ قُوَّةِ عَزِيمَةِ الْمُبْتَلَى، لَكِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْمُبْتَلَى مِنْ بَعِيدٍ, وَيَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ لِيَهْجُمَ عَلَيْهِ مِنْ جَدِيدٍ؛ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا, وَلْيَكُنِ الْإِنْسَانُ يَقِضًا لِهَذِهِ الْمَكِيدَةِ, فَإِنْ أَتَتْ فِيمَا بَعْدُ أَيُّ فِكْرَةٍ وَسْوَاسِيَّةٍ؛ وَلَوْ كَانَتْ بَسِيطَةً, فَلْيُطَبِّقْ عَلَيْهَا أَرْكَانَ الْعِلَاجِ الثَّلَاثَةَ: التَّجَاهُلُ التَّامُ, وَالْمُوَاجَهَةُ, وَالصُّمُودُ وَالثَّبَاتُ.
اترك تعليقاً