*الْحَمْدُ لِلهِ الذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى, وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الرَّدَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَهْلَ الْجَهَالَةِ وَالرَّدَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ آثَارَهُمْ عَلى النَّاسِ: يَنْفُونَ عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الضَّالِّينَ, تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, أَمَّا بَعْدُ:
فَوَقَعَ يَوْمًا بَيْنَ الْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ وَزَوْجَتِهِ شِقَاقٌ وَخِلَافٌ بِسَبَبِ مَيْلِهِ عَنْهَا، فَطَلَبَتْ مِنْهُ الْعَدْلَ, فَقَالَ لَهَا: مَنْ تَرْضَيْنَ فِي الْحُكُومَةِ بَيْنِي وَبَيْنِكِ؟ قَالَتْ: أَبَا حَنِيفَةَ، فَرَضِيَ هُوَ بِهِ, فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ زَوْجَتِي تُخَاصِمُنِي فَأَنْصِفْنِي مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: لِيَتَكَلَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: كَمْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِن النِّسَاءِ؟ قَالَ: أَرْبَعٌ. قَالَ الْمَنْصُورُ لِزَوْجَتِهِ: أَسَمِعْتِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا أَحَلَّ اللهُ هَذَا لِأَهْلِ الْعَدْلِ, فَمَنْ لَمْ يَعْدِلْ, أَوْ خَافَ أَنْ لَا يَعْدِلَ فَوَاحِدَةٌ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) فَسَكَتَ الْمَنْصُورُ وَطَالَ سُكُوتُهُ، فَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ وَخَرَجَ, فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ زَوْجَةَ الْمَنْصُورِ خَادِمًا وَمَعَهُ مَالٌ وَثِيَابٌ، فَرَدَّهَا, وَقَالَ: أَقْرِئْهَا السَّلَامَ, وَقُلْ لَهَا: إِنَّمَا نَاضَلْتُ عَنْ دِينِي, وَقُمْتُ بِذَلِكَ الْمَقَامَ لِلهِ, وَلَمْ أَرِدْ بِذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى أَحَدٍ, وَلَا الْتَمَسْتُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا شَيْئًا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ فِي تَارِيخِ الْعُظَمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي سِيَرِ الْعُلَمَاءِ لَعِبَرًا، وَإِنَّ فِي أَحْوَالِ النُّبَلَاءِ لَمُدَّكَرًا، وَإِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي الْفَضْلِ شُمُوسٌ سَاطِعَةٌ, وَفِي الْعِلْمِ نُجُومٌ لَامِعَةٌ, فَهُمْ بِحَقٍّ أَنْوَارُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، ألَا وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ هَؤَلَاءِ الْأَئِمَّةِ، أَبَا حَنِيْفَةَ النُّعْمَانَ بْنَ ثَابِتٍ الكُوْفِيَّ, أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ.
تَتَلْمَذَ عَلَى يَدِ مُفْتِي الْحَرَمِ عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعُنِيَ بِطَلَبِ الآثَارِ، وَارْتَحَلَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ عَنْهُ إِمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: هُوَ عِنْدَنَا مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ يُتَّهَمْ بِالكَذِبِ.
وَقَالَ عَنْهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَوِ انْشَقَّتْ عَنْهُ الْأَرْضُ لَانْشَقَّتْ عَنْ جَبَلٍ مِن الْجِبَالِ فِي الْعِلْمِ, وَالْكَرَمِ, وَالْمُوَاسَاةِ, وَالْوَرَعِ, وَالْإيثَارِ لِلّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَذْكِيَاءِ بَنِي آدَمَ.
وَقِيْلَ لِلْقَاسِمِ بنِ مَعْنٍ قَاضِي الْكُوفَةِ: أَتَرضَى أَنْ تَكُوْنَ مِنْ غِلمَانِ أَبِي حَنِيْفَةَ؟ قَالَ: مَا جَلَسَ النَّاسُ إِلَى أَحَدٍ أَنْفَعَ مِنْ مُجَالَسَةِ أَبِي حَنِيْفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قِيْلَ لِمَالِكٍ: هَلْ رَأَيْتَ أَبَا حَنِيْفَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَجُلًا لَوْ كُلَّمَكَ فِي هَذِهِ السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا، لَقَامَ بِحُجَّتِهِ. وَفِى رِوَايَةٍ: لَوْ جَاءَ إِلَى أَسَاطِينِكُمْ فَقَايَسَكُمْ عَلَى أَنَّهَا خَشَبٌ لَظَنَنْتُمْ أَنَّهَا خَشَبٌ.
وَقَالَ حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ: كَلاَمُ أَبِي حَنِيْفَةَ فِي الفِقْهِ، أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، لاَ يَعِيبُهُ إِلاَّ جَاهِلٌ.
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: الإِمَامَةُ فِي الفِقْهِ, وَدَقَائِقِهِ, مُسَلَّمَةٌ إِلَى هَذَا الإِمَامِ، وَهَذَا أَمرٌ لَا شَكَّ فِيْهِ. وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ * إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيْلِ
وَسِيْرَتُهُ تَحْتَمِلُ أَنْ تُفرَدَ فِي مُجَلَّدَيْنِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَحِمَهُ -.
*فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: مَا أَبْعَدَ أَبَا حَنِيفَةَ عَن الْغِيبَةِ، مَا سَمِعْتُهُ يَغْتَابُ عَدُوًّا، قَالَ سُفْيَانُ: وَاللهِ هُوَ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مَا يَذْهَبُ بِهَا.
وَقَالَ شَرِيْكٌ: كَانَ أَبُو حَنِيْفَةَ طَوِيْلَ الصَّمْتِ، كَثِيْرَ العَقْلِ.
وَقَالَ القَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ: قَامَ أَبُو حَنِيْفَةَ لَيْلَةً يُرَدِّدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) يَبْكِي، وَيَتَضَرَّعُ إِلَى الفَجْرِ.
اترك تعليقاً