أصحاب الكهف

*فإنَّ أحْسَنَ القَصَصِ هي قَصَصُ القُرْآنِ لِمَا فِيهَا مِن العِظَاتِ, وَالعِبَرِ, التي تَنْفَعُ مَنْ تَدَبَّرَهَا وَتَأَمَّلَهَا عَقِيدَةً, وَعِبَادَةً, وَسُلُوكًا (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) وَمِنْ أَعْجَبِ قِصَصِ القُرْآنِ: قِصَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ التي ذَكَرَهَا اللهُ فِى سُورَةِ الكَهْفِ, وَهِي السُّورَةُ التى رَغَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِى قِرَاءَتِهَا, وَحِفْظِ بَعْضِ آيَاتِهَا, فَفِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِن الدَّجَّالِ) وَعِنْدَ البَيْهَقِيِّ والحَاكِمِ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ) فَهِيَ نُورٌ, وَضِيَاءٌ لِقَارِئِهَا مِن ظُلُمَاتِ الفِتَنِ، وَعِصْمَةٌ مِن فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ. وَمُلَخَّصُ قِصَّةِ أصْحَابِ الكَهْفِ: أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَوَحَّدُوهُ فِي العِبَادَةِ وَكَانَ قَوْمُهُمْ مُشْرِكِينَ فَاعْتَزَلُوهُمْ إلَى كَهْفٍ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ فَنَامُوا ثَلاثَ مَائةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سَنَوَاتٍ؛ ثُمَّ بَعَثَهُمُ اللهُ مِن نَوْمِهِمْ فَحَفِظَ اللهُ لَهُمْ دِينَهُمْ وَوَقَاهُمْ الفِتَنَ وَعَصَمَهُمْ مِنْهَا وَنَالَهُمْ شَئٌّ كَبِيرٌ مِن العِزِّ وَالشَّرَفِ بَعْدَ أنْ تَبَدَّلَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، جَزَاءَ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ.
وَيُسْتَفَادُ مِن قِصَّتِهِمْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ, وَمِنْهَا:
أنَّ قِصَّتَهُمْ مَعَ عَجِيبِ شَأَنِهَا فَإنَّهَا لَيْسَتْ بِأَعْجَبَ آيَاتِ اللهِ، بَلْ أعْجَبُ مِنْهَا خَلْقُ الأَرْضِ, وَمَا خَلَقَ اللهُ فِيهَا مِن أَنْوَاعِ الزِّيْنَةِ، ثُمَّ يَفْنَى ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ, ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ الخَلَائِقَ لِيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا * أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) أيْ: وَإنْ كَانَتْ قِصَّتَهُمْ عَجِيبَةً إلَّا أنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْجَبُ وَأَعْظَمُ مِنْهَا.
وَمِنْهَا: أنَّ هَؤلاءِ الفِتْيَةِ نَشَئُوا فِي بِيئَةٍ كَافِرَةٍ باللهِ, وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى تَدَارَكَهُمْ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ فَهَدَاهُمْ إلَى الإِيْمَانِ وَالتَّوحِيدِ، وَعَلَى العَاقِلِ أنْ يَكُونَ رَائِدُهُ الحَقَّ, لَا التَّعَصُّبُ لِمَا عَلَيْهِ الآبَاءُ والأَسْلَافُ, فَحَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ فَالوَاجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَلْتَزِمَ بِهِ.
وَمِنْهَا: أنَّ هَؤُلاءِ الفِتْيَةَ مَا طَالَبُوا بِحُكْمٍ وَلَا نَافَسُوا عَلَى مُلْكٍ، وَلَكِنْ دَعَوْا إلَى إفْرَادِ اللهِ بِالعِبَادَةِ؛ وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ أنْ يَسْلُكَ فِي دَعْوَتِهِ إلَى اللهِ مَسْلَكَ النَّبِيِّينَ وَأتْبَاعِهِمْ مِن العِنَايَةِ بِالتَّوْحِيدِ, وَالدَّعْوَةِ إلِيهِ, وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا يُضَادُهُ.
وَمِنْهَا: فَضْلُ الدُّعَاءِ مَعَ بَذْلِ السَّبَبِ؛ فَهُمْ لَجَؤُوا إلَى الكَهْفِ, وَابْتَهَلُوا إلَى اللهِ بِدُعَاءٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) فَآوَاهُمْ اللهُ وَسَلَّمَهُمْ وَحَفِظَهُمْ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ، وَجَعَلَ قِصَّتَهُمْ زِيَادَةَ بَصِيرَةٍ, وَيَقِينٍ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْهَا: أنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) وَهَذِهِ هِيْ عَادَةُ اللهِ فِيْمَنْ تَحَمَّلَ المَشَاقَّ مِن أَجْلِهِ, أنْ يَجْعَلَ لَهُ العَاقِبَةَ الحَمِيدَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِنْهَا: أنَّهُ حِينَ خَشِيَ أْولَئِكَ الفِتْيَةُ مِن أذَى قَوْمِهِمْ, رَأَوْا أنْ يَفِرُّوا بِدِينِهِمْ, وَبِأَنْفُسِهِمْ فِي مَكَانٍ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ فِيهِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ؛ وَالعُزْلَةُ مَطْلُوبَةٌ حِينَ لا يَكُونُ لِمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَدَعْوَتَهُمْ جَدْوًى وَلَا أَثَرَ، أوْ كَانَ المَرْءُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِن البَلَاءِ وَالفِتْنَةِ.
وَإذَا كَانَتْ عُزْلَةَ أَوْلئكَ الفِتْيَةِ بِحَقٍّ, فَإنَّنَا نَجِدُ اليَوْمَ مِن شَبَابِنَا مَنْ يَعْتَزِلُ أُسْرَتَهُ وَمُجْتَمَعَهُ بِبَاطِلٍ, تَأَثُّرًا بِبَعْضِ المَنَاهِجِ المُنْحَرِفَةِ، وَلِهَذَا نَجِدُ كَثِيرًا مِن الآبَاءِ لا يَعْلَمُ عَن أبْنَائِهِ شَيْئًا, ثُمَّ لَا يَسْمَعُ بِهِمْ إلا فِي بِلَادٍ تَعُجُّ بِالفِتَنِ وَالفَوْضَى، أوْ ضَحَايَا أَعْمَالٍ تَخْرِيِبِيَّةٍ يَكُونُونَ هُمْ وَقُودُهَا وَحَطَبُهَا.
وَمِمَّا يَلْفِتُ الانْتِبَاهَ: مَا كَانَ عَليهِ أَصْحَابُ الكَهْفِ مِن الحِلْمِ وَالتَّؤُدَةِ وَالْأَنَاةِ وَهَذَا مِن تَوْفِيقِ اللهِ لَهُمْ، فَإنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ وَاجَهُوا مُجْتَمَعًا مُشْرِكًا شِرْكًا أَكْبَرَ إِلَّا أنَّهُمْ أَدْرَكُوا ضَعْفَ قَوَّتِهِمْ, وَقِلَّةَ عَدَدِهِمْ, فَاعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ, وَكَفُّوا أيْدَيَهُمْ عَنْهُمْ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أنَّ كَثِيرًا مِن مَصَائِبِ العَالَمِ الإسْلَامِيِّ اليَوْمَ نَاتِجَةٌ عَن التَّهَوُّرِ, وَالطَّيْشِ, حَيْثُ يَتَحَرَّشُ الضُّعَفَاءُ بِالْأَقْوِيَاءِ، فَتَعُودُ العَاقِبَةُ وَخِيمَةً عَلَى الإسْلَامِ وَأهْلِهِ وَدِيَارِهِ؛ وَاللهُ المُسْتَعَانُ.

*فَمِنْ فَوَائِدِ قِصَّةِ أصْحَابِ الكَهْفِ: أنَّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ؛ صَدَقَ اللهُ مَعَهُ, وَأَحَاطَهُ بِلُطْفِهِ, وَهَيَّأَ لَهُ مِن الأَسْبَابِ مَا لَا يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ، فَقَدْ حَفِظَهُمُ اللهُ أَيْقَاظًا, وَنَائِمِينَ, وَحَفِظَهُمُ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِى أَبْدَانِهِمْ وَفِى أَمْوَالِهِمْ.
وَمِنْهَا: فَضْلُ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ، فَإنَّ الكَلْبَ لَمَّا صَحِبَ أَوْلئكَ النَّفَرَ الصَّالِحِينَ نَالَهُ مِن بَرَكَاتِهِمْ, فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ النَّوْمُ مَعَهُمْ, وَبَقِيَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ، وَفِي الحَدِيثِ: (أنَّ الرَّجُلَ لَهُ حَاجَةٌ فَيَمُرُّ بِحَلَقَةِ ذِكْرٍ, فَيَجْلِسُ فِيهَا، فَيَغْفِرُ اللهُ لَهُ مَعَهُمْ) فَعَلَى المُسْلِمِ وَلَا سِيَّمَا الشَّابُّ فِي مُقْتَبَلِ عُمُرِهِ أنْ يُحْسِنَ اخْتِيَارَ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ. وَلْيَحْذَرْ الْمُسْلِمُ غَايَةَ الحَذَرِ مِنْ صُحْبَةِ الأَشْرَارِ, وَأَصْحَابَ الأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ, فَإنَّ صُحْبَتَهُمْ دَاءٌ عُضَالٌ يَضُرُّ فِي الحَالِ وَفِي المَآلِ، وَفِى الحَدِيثِ: (المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) وَفِي الصَّحِيحِينِ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *