*فَهُوَ صِنَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، وَبِضَاعَةٌ لِلْيَهُودِ، وَمِهْنَةٌ لِلْخٌبَثَاءِ؛ التَّلَطُّخُ بِهِ كَارِثَةٌ، وَالْابْتِلَاءُ بِهِ مُصِيبَةٌ، وَالسَّيرُ فِيهِ دَنَاءَةٌ, فَهُوَ يَجْمَعُ مَسَاوِئَ الْأَخْلَاقِ، وَيَحْوِي أَسْوَأَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ فِي حَقِيقَتِهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْخَالِقِ، وَتَسَخُّطٌ عَلَى الْقَدَرِ، وَهُوَ مَرْتَعٌ لِلْحِقْدِ، وَصَارِفٌ عَنِ الشُّكْرِ، وَجَالِبٌ لِلْغَمِّ، وَسَبَبٌ لِلْهَمِّ، وَهُوَ مَنْبَعٌ لِلشُّرُورِ، وَمُوَرِّثٌ لِلضَّغَائِنِ، وَمُحَرِّضٌ عَلَى الْعَدَاوَةِ, أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ، كَمَا أَمَرَ بِالْاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, فَقَالَ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) إِنَّهُ الْحَسَدُ أَوَّلُ خَطِيئَةٍ ظَهَرَتْ فِي السَّمَاءِ، فَكَانَ سَبَبًا لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ، ولَعْنَةِ اللهِ لَهُ، وَطَرْدِهِ مِنَ الْجَنَّةِ؛ إِذْ اعْتَرَضَ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ, وَهُوَ كَذَلِكَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللهُ بِهَا فِي الْأَرْضِ حِينَمَا قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ هَابِيلَ حَسَدًا لَهُ, وَالْحَسَدُ سَبَبٌ لِعَدَاوَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِيُوسُفَ، وَهُوَ سَبَبٌ فِي إِعْرَاضِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَلْ وَمُحَارَبَتِهِمْ لَهُ، وَكَانَ الْحَسَدُ – وَلَا يَزَالُ سَبَبًا – فِي كَرَاهَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ – وَخُصُوصًا الْيَهُودُ – لِلْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) وَالْحَسَدُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ, وَهُوَ عَدُوُّ الْإِيمَانِ, كَمَا فِي النَّسَائِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَا يَجْتَمِعُ فِي جَوْفِ عَبْدٍ, الْإِيمَانُ, وَالْحَسَدُ) وَهُوَ الدَّاءُ الذِي أَهْلَكَ الْأُمَمَ، وَدَمَّرَ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَمَزَّقَ الْأُسَرَ؛ فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُم: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ) وَالْحَسَدُ هُوَ كُرْهُ النِّعْمَةِ لِلْآخَرَ, وَتَمَنِّي زَوَالَهَا عَنْهُ.
وَالْحَاسِدُ فِي هَمٍّ دَائِمٍ، وَحُزْنٍ لَازِمٍ، فَيَغْتَمُّ لِسُرُورِ النَّاسِ، وَيَتَألَّمُ لِسَعَادَتِهِمْ, فَهُوَ مُغْتَاظٌ عَلَى مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، بَخِيلٌ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ, قَالَ بَعْضُهُمْ: يَصِلُ إِلَى الْحَاسِدِ خَمْسُ عُقُوبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ حَسَدُهُ إِلَى الْمَحْسُودِ: غَمٌّ لَا يَنْقَطِعُ، وَمُصِيبَةٌ لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهَا، وَمَذّمَّةٌ لَا يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَسَخَطُ اللهِ عَلَيْهِ، وَيُغْلَقُ عَنْهُ بَابُ التَّوْفِيقِ.
*فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ نَقِيُ الْقَلْبِ، زَكِيُّ الرُّوحِ، سَلِيمُ الصَّدْرِ, سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَفْضلُ؟ فَقَالَ: (كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ) قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ, وَلَا بَغْيَ, وَلَا غِلَّ, وَلَا حَسَدَ) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَحِينَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنَّهُ يَطْلُعُ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ عَمِلٍ، وَلَكِنّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أَجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًا, وَلَا حَسَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
وَبِهَذَا النَّقَاءِ وَالصَّفَاءِ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الْأَنْصَارِ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أَيْ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَسَدًا أَوْ غَيْظًا مِمَّا أُوتِيَ إِخْوَانُهُم الْمُهَاجِرُونَ, فَاجْتَهِدُوا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنَيْنَ فِي تَطْهِيرِ قُلُوبِكُمْ مِنَ الْغِشِّ, وَالْحَسَدِ لِإِخْوَانِكُمْ, وَارْضَوْا بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكُمْ تَفُوزُوا بِأَعْظَمِ الْأُجُورِ, وَتَنْجُوا مِنْ شَرٍّ عَظِيمٍ.
اترك تعليقاً