*فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَجُلاً مَرَّةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ فَرَاعِنَةِ الْعَرَبِ, فَقَالَ: (اِذهَبْ فَادْعُهُ لِي) فَذَهَبَ إِلَيْهِ, فَقَالَ: يَدْعُوكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَسُولُ اللهِ؟! وَمَا اللهُ؟! أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَأخْبَرَهُ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذَلِكَ, فَقَالَ لَهُ: (اِرْجِعْ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ) فَذَهَبَ, فَقَالَ لَهُ مِثْلُهَا, فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذَلِكَ, فَقَالَ: (اِرْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ) فَرَجَعَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ, فَأَعَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ, فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ بَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ سَحَابَةً حِيَالَ رَأَسِهِ, فَرَعَدَتْ فَوَقَعَتْ مِنْهَا صَاعِقَةٌ, فَذَهَبَتْ بِقَحْفِ رَأْسِهِ, فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) أَيْ شَدِيدُ الْقُوَّةِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ تَعْظِيمَ اللهِ تَعَالَى, وَتَعْظِيمَ شَعَائِرِهِ, وَحُدُودِهِ, مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ الْقَلْبِيَّةِ, الَّتِي يَتَعَيْنُ تَحْقِيقُهَا, وَالْقِيَامُ بِهَا، وَتَرْبِيَةُ النَّاسِ عَلَيْهَا، خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ تَعْظِيمَ اللهِ تَعَالَى: مِنَ الْاسْتِخْفَافِ, وَالْاسْتِهْزَاءِ بِشَعَائِرِ اللهِ تَعَالَى، وَالتَّسْفِيهِ, وَالْازْدِرَاءِ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى وَأَهْلِهِ, وَالتَّطَاوُلِ مِنْ بَعْضِ الْمَوْتُورِينَ تَارَةً عَلَى اللهِ عزَّ وَجَلَّ, وَتَارَةً عَلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَتَارَةً عَلَى سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ, مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَجِلَّاءِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنّ الْإِيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى التَّعْظِيمِ, وَالْإِجْلَالِ لِهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تَعَالَى: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ يَتَشَقَّقْنَ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَتَعْظِيمُ اللهِ, وَإِجْلَالُهُ, لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لَهُ تَعَالَى، كَمَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ, وَلَا تَعْطِيلٍ, وَلَا تَكْيِيفٍ, وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَالتَّحْرِيفُ, هُوَ: التغْيِيرُ, وَإِمَالَةُ الشَّيءِ عَنْ وَجْهِهِ, وَهُوَ قِسْمَانِ:
أَوَّلًا: تَحْرِيفٌ لَفْظِيٌ, وَذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ, أَوِ النَّقْصِ, أَوْ تَغْيِيرِ حَرَكَةٍ فِي الْكَلِمَةِ, كَتَحْرِيفِ كَلِمَةِ – اسْتَوَى – فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) إِلَى اسْتَوْلَى.
ثَانِيًا: تَحْرِيفٌ مَعْنَوِيٌ, وَذَلِكَ بِتَفْسِيرِ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللهِ, ورَسُولِهِ مِنْهُ, كَمَنْ فَسَّرَ – الْيَدَ – لِلهِ تَعَالَى بِالْقُوَّةِ, أَوِ النِّعْمَةِ.
وَالتَّعْطِيلُ, هُوَ: نَفْيُ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى, كَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةٍ, وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّحْرِيفِ, وَالتَّعْطِيلِ, هُوَ أَنَّ التَّحْرِيفَ نَفْيُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ, وَاسْتِبْدَالُهُ بِمَعْنًى آَخَرَ غَيْرَ صَحِيحٍ.
أَمَّا التَّعْطِيلُ, فَهُوَ نَفْيُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْدَالٍ لَهُ بِمَعْنًى آخَرَ.
وَالتَّكْيِيفُ, هُوَ: تَعْيِينُ كَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ, وَالْهَيْئَةِ, الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا, فيَقُولُونَ: كَيْفِيَّةُ يَدِ اللهِ كَذَا وَكَذَا، وَكَيْفِيَّةُ اسْتِوَائِهِ عَلَى هَيْئَةِ كَذَا وَكَذَا, وَهَذَا بَاطِلٌ, إِذْ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِ اللهِ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ, وَأَمَّا الْمَخْلُوقُونَ فَإِنَّهُم يَجْهَلُونَ ذَلِكَ, وَيَعْجَزُونَ عَنْ إِدْرَاكِهِ.
وَالتَّمْثِيلُ, هُوَ: التَّشْبِيهُ, كَمَنْ يَقُولُ أَنَّ لِلهِ سَمْعٌ كَسَمْعِنَا, وَوَجْهٍ كَوُجُوهِنَا, أَوْ صَوْتُ اللهِ يُشْبِهُ كَذَا وَكَذَا, تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَيَنْتَظِمُ الْمَنْهَجُ الْحَقُّ فِي بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, فِي ثَلَاثَةِ أُصُولٍ, مَنْ حَقَّقَهَا, سَلِمَ مِنَ الْانْحِرَافِ, وَالزَّلَلِ فِي هَذَا الْبَابِ, وَهِيَ:
الْأصْلُ الْأوَّلُ: تَنْزَيْهُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ أَنْ يُشْبِهَ شَيءٌّ مِنْ صِفَاتِهِ, شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: الْإِيمَانُ بِمَا سَمَّى, وَوَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ, وَبِمَا سَمَّاهُ, وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللهِ, وَعَظَمَتِهِ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: قَطْعُ الطَّمَعِ, عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ كَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْمَخْلُوقِ لِذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ.
فَمَنْ حَقَّقَ هَذِهِ الْأُصُولَ الثَّلَاثةَ فَقَدْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ, فِي بَابِ الْأَسْمَاءِ, وَالصِّفَاتِ, عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ فِي هَذَا الْبَابِ.
*فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, فَقَالَ: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاللهِ عَلَيْكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ!) فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَيْحُكَ، أَتَدْرِي مَا اللهُ؟ إِنَّ شَأْنَ اللهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ).
وَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهَذَا قَدْرُ مَا تَحْتَمِلُهُ الْعُقُولُ، وَإِلَّا فَعَظَمَةُ اللهِ, وَجَلَالُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا عَقْلٌ, فَمَنْ هَذا بَعْضُ عَظَمَتِهِ, وَجَلَالِهِ, كَيْفَ يُجْعَلُ فِي رُتْبَتِهِ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا, وَلَا ضَرًّا؟.
وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَحِمَهُ اللهُ: لِيُعَظِّمْ أَحَدُكُم رَبَّهُ، أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فِي كُلِّ شَيءٍّ حَتَّى يَقُولَ: أَخْزَى اللهُ الكَلْبَ، وَفَعَلَ اللهُ بِالْكَلْبِ كَذَا.
اترك تعليقاً