*فَخَطَبَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ وَالِيِ الْعِرَاقِ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ, فَقَالَ: أَيْهُا النَّاسُ إِنِّي بِتُّ لَيْلَتِي هَذِهِ مُهْتَمًّا بِخِلَالٍ ثَلَاثٍ, رَأَيْتُ أَنْ أَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهِنَّ بِالنَّصِيحَةِ: رَأَيْتُ إِعْظَامَ ذَوِي الشَّرَفِ, وَإِجْلَالَ ذَوِي الْعِلْمِ, وَتَوْقِيرَ ذَوِي الْأَسْناَنِ, وَاللهِ لَا أُوْتَى بِرَجُلٍ رَدَّ عَلَى ذِي عِلْمٍ لِيَضَعَ بِذَلِكَ مِنْهُ, إِلَّا عَاقَبْتُهُ, وَلَا أُوْتَي بِرَجُلٍ رَدَّ عَلَى ذِي شَرَفٍ لِيَضَعَ بِذَلِكَ مِنْهُ شَرَفَهُ, إِلَّا عَاقَبْتُهُ, وَلَا أُوْتَى بِرَجُلٍ رَدَّ عَلَى ذِي شَيْبَةٍ لِيَضَعَهُ بِذَلِكَ, إِلَّا عَاقَبْتُهُ, إِنَّمَا النَّاسُ بِأَعْلَامِهِمْ, وَعُلَمَائِهِمْ, وَذَوِي أَسْنَانِهِمْ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا, قَالَا: (إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ).
وَقَالَ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ طَاوُوسُ بْنُ كَيْسَانٍ: (مِن السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَالِدُ).
وَقَامَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, فَأَنْكَرَ سُفْيَانُ عَلَى وَكِيعٍ قِيَامُهُ، فَقَالَ وَكِيعٌ: حَدَّثْتَنِيْ, عَنْ عَمْرِو بْنِ دِيْنَارٍ, عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, قَالَ: قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مِنْ إِجْلَالِ اللهِ, إِجْلَالُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ) فَسَكَتَ سُفْيَانُ, وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ, قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: خِيَارُكُمْ: أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا, وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا).
وَلَمَّا أَرَادَ إِمَامُ الدُّنْيَا فِي زَمَانِهِ, الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ, أَلْبَسَتْهُ أُمُّهُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ ثُمَّ أَدْنَتْهُ إِلَيْهَا، وَمَسَحَتْ عَلَى رَأَسِهِ، وَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ اذْهَبْ إِلَى مَجَالِسِ الْإِمَامِ رَبِيعَةَ، وَاجْلِسْ فِي مَجْلِسِهِ، وَخُذْ مِنْ أَدَبِهِ, وَوَقَارِهِ, وَحِشْمَتِهِ, قَبْلَ أَنْ تَأَخُذَ مِنْ عِلْمِهِ.
فَمَا أَحْوَجَنَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ أَنْ نَتَعَلَّمِ الْأَدَبَ الرَّفِيعَ فِي جَمِيعِ تَعَامُلَاتِنَا, لِإِنَّنَا نَمُرُّ هَذِهِ الْأَعْوَامَ وَلِلأَسَفِ الشَّدِيدِ بِأَزْمَةِ أَخْلَاقٍ خَانِقَةٍ, فَمَا أَنْ تُيَمِّمَ بِوَجْهِكَ إلَى نَاحِيَةٍ, إِلَا لَمَحْتَ بِنَاظِرَيْكَ شَبَابًا يَسْتَطِيلُونَ بِأَقْوَالِهِمْ, أَوْ أَفْعَالِهِمْ عَلَى الْكِبَارِ، وَلَا يَعْرِفُونَ لِأَكَابِرِهِمْ أَيَّ قَدْرٍ وَمَكَانَةٍ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَكْرِمُوا كِبَارَكُمْ مِن الْعُلَمَاءِ, وَذَوِي الشَّرَفِ, وَكِبَارِ السِّنِّ, لِيَتَأَسَّى بِكُمْ مَنْ يَأَتِي بَعْدَكُمْ, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ رَحْمَةَ الصَّغِيرِ، وَتَوْقِيرَ الْكَبِيرِ، وَاحْتِرَامَ الْعَالِمِ، قِيَمٌ إِسْلَامِيَّةٌ أَصِيلَةٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ تُفْقَدَ هَذِهِ الْقِيَمُ، وَلَا أَنْ تُسْتَبْدَلَ بِقِيَمٍ أُخْرَى غَرِيبَةٍ عَنْ هَذَا الْمُجْتَمَع, وَلَيْسَتْ مِنْ أَخْلَاقِ أَبْنَائِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِي, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمَهُ عِنْدَ سِنِّهِ) فَمَنْ أَكْرَمَ شَيْخًا وَهُو شَابٌّ، جَزَاهُ اللهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ؛ فَهَيَّأَ لَهُ – وَهُوَ شَيْخٌ – مَنْ يُكْرَمَهُ, وَهُوَ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى الْإِكْرَامِ، فَالْبِرُّ سَلَفٌ، وَالْعُقُوقُ سَلَفٌ، وَكَمَا قِيلَ: بُرُّوا آبَاءَكُمْ، تَبُرُّكُمْ أَبْنَاءُكُمْ.
*فَيَتَصَوَّرُ الْبَعْضُ مِنَّا أَنَّ الْأَدَبَ, وَالْاحْتِرَامَ, عِنْدَمَا يُطْلَقَانِ يُرَادُ بِهِمَا احْتِرَامُ الْأَصْغَرِ لِمَنْ هُمْ أَكْبَرُ مِنْهُ, سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ فِي الْعُمُرِ أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ الْاحْتِرَامَ قَضِيَّةٌ تَبَادُلِيَّةٌ, لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ مِنْ إِنْسَانٍ تِجَاهَ مَنْ لَا يَحْتَرِمَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَلِكَي يَكُونَ الْاحْتِرَامُ سِمَةً مِن سِمَاتِ مُجْتَمَعِنَا, فَعَلَيْنَا أَنَّ نُشِيعَ الْاحْتِرَامَ الْمُتَبَادَلَ بَيْنَ كُلِّ أَطْيَافِ الْمُجْتَمَعِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ.
اترك تعليقاً