*فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ هِشَامِ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ, أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَالقَصْدُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي المَجَامِعِ الكِبَارِ كَالْعِيدِ, وَالْجُمَعِ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الخَلْقِ وَالْبَعْثِ, وَالنُّشُورِ, وَالْمَعَادِ, وَالْقِيَامِ, وَالْحِسَابِ, وَالْجَنَّةِ, وَالنَّارِ, وَالثَّوَابِ, وَالْعِقَابِ, وَالتَّرْغِيبِ, وَالتّرْهِيبِ, وَاللهُ أَعْلَمَ.
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: إنَّ العَمَلَ بِالْمَوْعِظَةِ خَيْرٌ, وَثَبَاتٌ, وَأَجْرٌ, وَهِدَايَةٌ, قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) فَلْنَقِفُ فِي ظِلَالِ هَذِهِ السُّورَةِ إِحْيَاءً لِلسُّنَّةِ, وَالْتِمَاسًا لِلْهِدَايَةِ, وَوَعْظًا لِلْقُلُوبِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(ق وَٱلْقُرْءانِ ٱلْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ) أَيْ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ فِي بَرْزَخِهِمْ (وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِيظٌ) أيْ مَحْفُوظٌ مِن التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ )بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ) أَيْ مُخْتَلِطٌ وَمُلْتَبِسٌ، وَهُوَ حَالُ كُلِّ مَنِ ابْتَعَدَ عَنْ هَدْيِ القُرْآنِ وَكَذَّبَ بِالْحَقِّ وَابْتَغَى هَدْيًا غَيْرَ هَدِيِ اللهِ، فَهُوَ مُتَخَبِّطٌ فِي آرَائِهِ وَمَوَاقِفِهِ، مُتَحَيِّرٌ فِي حَيَاتِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، ثُمَّ وَجَّهَ اللهُ تَعَالَى إلَى التَّفَكُّرِ وَالنَّظَرِ فِي صُنْعِ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيءٍ, إِنَّ فِي هَذَا لَبُرْهَانٌ عَظِيمٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ )أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاءً مُّبَـٰرَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ * وَٱلنَّخْلَ بَـٰسِقَـٰتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ) أَيْ الْبَعْثُ بَعْدَ المَوْتِ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـٰبُ ٱلرَّسّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوٰنُ لُوطٍ * وَأَصْحَـٰبُ ٱلأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) فَالْإعَادَةُ أَهْوَنُ مِن الْابْتِدَاءِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى مَا يَكُونُ عِنْدَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي، وَيُقَدِّمُ لِذَلِكَ بِالتَّذْكِيرٍ لِخَلْقِ اللهِ لِلْإنْسَانِ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، بَلْ يَعْلَمُ وَسْوَسَةَ الصُّدُورِ وَمَكْنُونَ الْقُلُوبِ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فَلَا مَفَرَّ مِن المَوْتِ، وَهُوَ مَعَ شِدَّتِهِ وَكُرْبَتِهِ فَإنَّ مَا بَعْدَهُ عَلَى الكُفْارِ أَشَدُّ وَأَفْظَعُ (وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) سَائِقٌ يَسُوقُهَا إلَى مَوْقِفِ القِيَامَةِ، وَشَهِيدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِأَعْمَالِهَا, فَيُقَالُ لَهُ: (لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ) وَفِي هَذَا الْمَوْقِفِ العَصِيبِ تُنْشَرُ الصُّحُفُ, وَيُبْصِرُ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ, وَعِنْدَهَا يَخْتَصِمُ أَهْلُ النَّارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّـٰعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَأَلْقِيَـٰهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ * قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِى ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ * قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإنَّهَا تُقَرَّبُ لِلْمُؤْمِنِينَ إِكْرَامًا لَهُمْ، فَأَرْخِ سَمْعَكَ يَا عَبْدَ اللهِ لِأَوْصَافِ أَهْلِهَا (وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ * وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) أَيْ هَذَا مَا يُوعَدُ بِهِ كُلُّ تَائِبٍ مِن ذُنُوبِهِ، حَافِظٍ لِكُلِّ مَا قَرَّبَهُ إلَى رَبِّهِ، مِن الْفَرَائِضِ وَالطَّاعَاتِ، مَنْ خَافَ اللهَ فِي الدُّنْيَا, وَلَقِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَلْبٍ تَائِبٍ مِنْ ذُنُوبِهِ, فَيُقَالُ لَهُم: (ٱدْخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).
*فَفِي عَطْفٍ بَيَانِيٍّ بَدِيعٍ, يَعُودُ اللهُ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ بِالتَّوْكِيدِ عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ القَضَايَا السَّابِقَةِ مِنَ الْبَعْثِ, وَالْخَلْقِ, وَمَصِيرِ الْخَلَائِقِ, وَهَلاكِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ, وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ, فَيَقُولُ: )وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ) فَلَا مَفَرَّ لَهُمْ مِن عَذَابِ اللهِ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ (إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ * وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ) وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَذِكْرَ اللهِ تَعَالَى مِنْ وَسَائِلِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ (وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ) أيْ مِن القُبُورِ )إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا ٱلْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بِٱلْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ).
اترك تعليقاً