*الْحَمْدُ لِلهِ الذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى, وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الرَّدَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَهْلَ الْجَهَالَةِ وَالرَّدَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ آثَارَهُمْ عَلى النَّاسِ: يَنْفُونَ عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الضَّالِّينَ, تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, أَمَّا بَعْدُ:
فَقَالَ الْمَرُّوْذِيُّ: أَدْخَلْتُ إِبْرَاهِيْمَ الْحُصْرِيَّ – وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا – عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ, فَقَالَ الْحُصْرِيُّ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ إِنَّ أُمِّي رَأَتْ لَكَ مَنَامًا، هُوَ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَتِ الجَنَّةَ. فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يَا أَخِي، إِنَّ سَهْلَ بْنَ سَلاَمَةَ كَانَ النَّاسُ يُخْبرُونَهُ بِمِثْلِ هَذَا، وَخَرَجَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الرُّؤيَا تَسُرُّ المُؤْمِنَ وَلاَ تَغُرُّهُ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ فِي تَارِيخِ الْعُظَمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي سِيَرِ الْعُلَمَاءِ لَعِبَرًا، وَإِنَّ فِي أَحْوَالِ النُّبَلَاءِ لَمُدَّكَرًا، وَإِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي الْفَضْلِ شُمُوسٌ سَاطِعَةٌ, وَفِي الْعِلْمِ نُجُومٌ لَامِعَةٌ, فَهُمْ بِحَقٍّ أَنْوَارُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، ألَا وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ هَؤَلَاءِ الْأَئِمَّةِ، الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيَّ, أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: قَالَ لِي أَبُو زُرْعَةَ: أَبُوكَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيْثٍ. فَقِيْلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الأَبْوَابَ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: فَهَذِهِ حِكَايَةٌ صَحِيْحَةٌ فِي سَعَةِ عِلْمِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَكَانُوا يَعُدُّوْنَ فِي ذَلِكَ المُكَرَّرَ، وَالْأَثَرَ، وَفَتْوَى التَّابِعِيِّ، وَمَا فُسِّرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ, وَلَا أَوْرَعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: خَرَجتُ مِنْ بَغْدَادَ، فَمَا خَلَّفْتُ بِهَا رَجُلًا أَفْضَلَ، وَلَا أَعْلَمَ، وَلَا أَفْقَهَ، وَلَا أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَحْمَدُ حُجَّةٌ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: إِنِّي لَأَتَدَيَّنُ بِذِكْرِ أَحْمَدَ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: إِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُحِبُّ أَحْمَدَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِيْنٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ أَحْمَدَ، صَحِبنَاهُ خَمْسِيْنَ سَنَةً، مَا افْتَخَرَ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِيْهِ مِنَ الخَيْرِ.
وَقَالَ الْمَرُّوْذِيُّ: حَضَرتُ أَبَا ثَوْرٍ أَحَدَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ شَيْخُنَا وَإِمَامُنَا فِيْهَا كَذَا وَكَذَا.
وَقَالَ الْمَرُّوْذِيُّ: قَالَ لِي الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا كَتَبْتُ حَدِيْثًا إِلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِيْنَارًا، فَأَعْطَيْتُ الحَجَّامَ دِيْنَارًا حِيْنَ احْتَجَمْتُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَتْ مَجَالِسُ أَحْمَدَ مَجَالِسَ الآخِرَةِ، لاَ يُذكَرُ فِيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، مَا رَأَيْتُهُ ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: جَمَعَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ المَعْرِفَةَ بِالحَدِيْثِ, وَالفِقْهِ, وَالوَرَعِ, وَالزُّهْدِ, وَالصَّبرِ.
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: وَإِلَى الإِمَامِ أَحْمَدَ المُنْتَهَى فِي مَعْرِفَة السُّنَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَفِي مَعْرِفَةِ الحَدِيْثِ وَفُنُونِهِ، وَمَعْرِفَةِ الفِقْهِ وَفُرُوْعِهِ. وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَأْسًا فِي الزُّهْدِ, وَالوَرَعِ, وَالعِبَادَةِ, وَالصِّدْقِ. وَكَانَ مَهِيْبًا فِي ذَاتِ اللهِ، حَتَّى لَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: مَا هِبْتُ أَحَدًا فِي مَسْأَلَةٍ، مَا هِبْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
*فَقَالَ الْمَرُّوْذِيُّ: قُلْتُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ يَوْمًا: مَا أَكْثَرَ الدَّاعِي لَكَ! قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَكُوْنَ هَذَا اسْتِدْرَاجًا؛ بِأَيِّ شَيْءٍ هَذَا؟ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: قَدِمَ رَجُلٌ مِن طَرَسُوْسَ، فَقَالَ: كُنَّا فِي بِلَادِ الرُّوْمِ فِي الغَزْوِ إِذَا هَدَأَ اللَّيْلُ، رَفَعَ الْمُجَاهِدُونَ أَصوَاتَهُم بِالدُّعَاءِ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ: كُنَّا نَمُدُّ المِنْجَنِيْقَ، وَنَرمِي عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَلَقَدْ رَمَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِحَجَرٍ أَحَدَ الْعُلُوجِ، وَالعِلْجُ عَلَى الحِصْنِ مُتَتَرِّسٌ بَدَرَقَةٍ – وَالدَّرَقَةُ: تُرْسٌ مِنْ جِلْدٍ – فَذَهَبَ الْحَجَرُ بِرَأْسِ الْعِلْجِ وَبَالدَّرَقَةِ. قَالَ الْمَرُّوْذِيُّ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَقَالَ: لَيْتَهُ لَا يَكُوْنُ اسْتدرَاجًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيلةٍ ثَلَاثَ مِائَةِ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا مَرِضَ وَضَعُفَ كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَليلَةٍ مِائَةً وَخَمْسِيْنَ رَكْعَةً.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَبِي كَثِيْرًا يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ.
اترك تعليقاً