*الْحَمْدُ لِلهِ الذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى, وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الرَّدَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَهْلَ الْجَهَالَةِ وَالرَّدَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ آثَارَهُمْ عَلى النَّاسِ: يَنْفُونَ عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الضَّالِّينَ, تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, أَمَّا بَعْدُ:
فَكَتَبَ العَابِدُ عَبْدُ اللهِ العُمَرِيُّ إِلَى الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ يَحُضُّهُ عَلَى الانْفِرَادِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ: إِنَّ اللهَ قَسَمَ الأَعْمَالَ كَمَا قَسَمَ الأَرْزَاقَ، فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُفتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُفتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الجِهَادِ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَنَشْرُ العِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ البِرِّ، وَقَدْ رَضِيْتُ بِمَا فُتِحَ لِي فِيْهِ، وَمَا أَظُنُّ مَا أَنَا فِيْهِ بِدُوْنِ مَا أَنْتَ فِيْهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ كِلاَنَا عَلَى خَيْرٍ وَبِرٍّ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ فِي تَارِيخِ الْعُظَمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي سِيَرِ الْعُلَمَاءِ لَعِبَرًا، وَإِنَّ فِي أَحْوَالِ النُّبَلَاءِ لَمُدَّكَرًا، وَإِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي الْفَضْلِ شُمُوسٌ سَاطِعَةٌ, وَفِي الْعِلْمِ نُجُومٌ لَامِعَةٌ, فَهُمْ بِحَقٍّ أَنْوَارُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، ألَا وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ هَؤَلَاءِ الْأَئِمَّةِ، الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ الْأَصْبَحِيَّ, إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ, أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ.
قَالَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ – وَصَدَقَ وَبَرَّ -: إِذَا ذُكِرَ العُلَمَاءُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِيْنٍ: مَالِكٌ مِنْ حُجَجِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا ارْتَفَعَ مِثْلَ مَالِكٍ، لَيْسَ لَهُ كَثِيْرُ صَلاَةٍ وَلَا صِيَامٍ، إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ لَهُ سَرِيْرَةٌ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ مُعَلِّقًا: مَا كَانَ مَالِكٌ عَلَيْهِ مِنَ العِلْمِ وَنَشْرِهِ, أَفضَلُ مِنْ نَوَافلِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ وَجْهَ اللهِ.
وَقَالَ عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ عَاصِمٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ:
رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يَحفَظَ حَدِيْثَ رَجُلٍ بِعَيْنِه؟ قَالَ: يَحفَظُ حَدِيْثَ مَالِكٍ.
قُلْتُ: فَرَأْيٌ؟ قَالَ: رَأْيُ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ السَّرَّاجُ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: أَصَحُّ الأَسَانِيْدِ: مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَهْيَبَ، وَلَا أَتَمَّ عَقْلًا مِنْ مَالِكٍ، وَلَا أَشَدَّ تَقوَىً.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: مَا نَقَلْنَا مِنْ أَدَبِ مَالِكٍ، أَكْثَرُ مِمَّا تَعْلَّمْنَا مِنْ عِلْمِهِ.
وَكَانَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ لَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ؛ إِجْلاَلًا لِلْحَدِيْثِ.
وَقَالَ عَن نَفْسِهِ: مَا جَالَسْتُ سَفِيْهًا قَطُّ.
وَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّهُ فَسَادٌ عَظِيْمٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ الإِنسَانُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ تَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَهُم يَظْلِمُونَ، وَيَجُورُونَ!
فَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَأَيْنَ المُكَلِّمُ بِالحَقِّ.
وَقَالَ مَخْلَدُ بنُ خِدَاشٍ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الشِّطْرَنْجِ, فَقَالَ: أَحَقٌّ هُوَ؟ فَقُلْتُ: لَا, قَالَ: (فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ).
*فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ مَالِكٌ إِذَا جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالأَهْوَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنِّيْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ دِيْنِي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ، اذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ، فَخَاصِمْهُ.
وَجَاءهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطرَقَ مَالِكٌ، وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ – والرُّحَضَاءُ: الْعَرَقُ يَغْسِلُ الْجِسْمَ كَثْرَةً – ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: (الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلاَ يُقَالُ لَهُ: كَيْفَ، وَ(كَيْفَ) عَنْ اللهِ مَرْفُوْعٌ، وَأَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ، صَاحِبُ بِدْعَةٍ، أَخْرِجُوْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيْهَا رَأَى رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَائِلًا يُنشِدُ:
لَقَدْ أَصْبَحَ الإِسْـلاَمُ زُعْزِعَ رُكْنُهُ * غَدَاةَ ثَوَى الهَـــادِي لَدَى مَلْحَدِ القَبْرِ
إِمَامُ الهُدَى مَـا زَالَ لِلْعِلْمِ صَائِنًا * عَلَيْهِ سَـــــــــــلاَمُ اللهِ فِي آخِرِ الدَّهْرِ
قَالَ: فَانْتَبَهتُ مِنْ نَوْمِي، فَإِذَا الصَّارِخَةُ عَلَى مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَرَحِمَهُ.
اترك تعليقاً