*فَالْإِسْلَامُ دِينٌ نَظَّمَ حَيَاةَ المُسْلِمِ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ، وَلَقَدْ شَمَلَتْ تَعَالِيمُ هَذَا الدِّينِ مَحَاسِنَ الآدَابِ وَمَكَارِمَ الأَخْلَاقِ التي تُنَظِّمُ حَيَاةَ المُجْتَمَعِ الإسْلَامِيِّ، وَتَكْفَلُ لَهُ السَّعَادَةَ وَالمَحَبَّةَ وَالتَّرَابُطَ بَيْنَ أفْرَادِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الآدَابِ الإسْلامِيَّةِ الرَّفِيعَةِ، حَقُّ الطَّرِيقِ وَآدَابُهُ، التي يَتَأَدَّبُ بِهَا المُسْلِمُ، وَبِتَحْقِيقِهَا يَرْقَى المُجْتَمَعُ الإسْلَامِيُّ, فَالطَّرِيقُ مِلْكٌ لِكُلِّ النَّاسِ، وَجَمِيعُ المَارَّةِ لَهُمْ حَقُّ الانْتِفَاعُ بِهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ الإسْلامُ مِن كُلِّ مَا يُؤْذِيِ المَارَّ بِالطَّرِيقِ، أوْ يُضَايِقَهُ, فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ) فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: مَالَنَا مِن مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (فَإنْ أَبَيْتُمْ إلَّا المَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ) قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُّ عَن المُنْكَرِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: (وَإرْشَادُ ابْنَ السَّبِيلِ, وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ إذَا حَمِدَ اللهَ) وَزَادَ البَّزَّارُ: (وَالإِعَانَةُ عَلَى الحَمْلِ) وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ: (وَأَعِينُوا المَظْلُومَ, وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا).
وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ يَتَبَيَّنُ لَنَا حِرْصَ الإسْلامِ عَلَى مُرَاعَاةِ حُقُوقِ الآخَرِينَ, وَإحْسَاسِهِمْ، وَكَرَامَتِهِمْ, وَرَاحَتِهِمْ، فَلَمْ يَرْضَ الإسْلامُ أنْ يُطْلِقَ الجَالِسُ فِي الطَّرِيقِ نَظَرَهُ، فَيُحْرِجَ مَنْ يَمُرُّ بِالطَّرِيقِ وَخَاصَّةً مِن النِّسَاءِ، أوْ يُؤْذِي أَحَدٌ مِن المَارَّةِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِن أنْوَاعِ الإيذَاءِ الحَسِّيِّ أوِ المَعْنَوِيِّ، وَمِنْ ثَمَّ حَثَّ الإسْلامُ وَرَغَّبَ فِي إزَالَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، التي تُدْخِلُ صَاحِبَهَا الجَنَّةَ, فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لاَ يُؤْذِيهِمْ. فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِحَقِّ الطَّرِيقِ فِي الإسْلامِ, آدَابُ المَشْيِ, بِأَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ فِي مِشْيَتِهِ مُتَوَاضِعًا, مُتَسَامِحًا, قَالَ تَعَالَى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) أَيْ يَمْشُونَ بِسَكِينَةٍ, وَوَقَارِ, وَتَوَاضُعٍ، فَلَا خُيَلَاءَ, وَلَا كِبْرَ، وَلَا تَعَالٍ, وَلَا افْتِخَارَ عَلَى النَّاسِ، وَيَتَحَمَّلُونَ أَذَى الغَيْرِ, وَيَتَسَاهَلُونَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ الآخَرِينَ.
وَاللهُ تَعَالَى يُوَجِّهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ إلَى هَذَا الخُلُقِ الكَرِيمِ, والأَدَبِ الرَّفِيعِ فِي مَشْيِهِمْ، فَيَقُولُ تَعَالَى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) وَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ تَهَكُّمٌ بِالمُتَكَبِّرِينَ فِي مِشْيَتِهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِهَذا المُتَكَبِّرُ مَهْمَا ضَرَبْتَ الأَرْضَ أَيُّهَا المُتَكَبِّرُ بِقَدَمَيْكَ لِتُنَبِّهَ النَّاسَ إلَى عَظَمَتِكَ الفَارِغَةِ، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ خَرْقَ الأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ، وَمَهْمَا رَفَعْتَ رأسك أَيُّهَا المُتَكَبِّرُ اخْتِيَالًا, وَعُجْبًا, فَلَنْ يَبْلُغَ طُولُكَ طُولَ الجِبَالِ، بَلْ أَنْتَ بِجَانِبِهَا ضَعِيفٌ, عَاجِزٌ, مَغْرُورٌ، وَعَاقِبَتُكَ وَخِيمَةٌ, وَنِهَايَتُكَ سَيِّئَةٌ، مَخْتُومَةٌ بِالحَسْرَةِ وَالعَذَابِ.
وَفِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلِيهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ, تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ, مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ, إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ, فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا المَجاَلِ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِن إزْعَاجِ الآَخَرِينَ بِآلَاتِ التَّنْبِيهِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ بِغَيْرِ حَاجَةٍ إلى ذَلِكَ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِن أَبْوَاقِ السَّيَّارَاتِ دُونَ حَيَاءٍ وَلَا مُرَاعَاةٍ لِشُعُورِ الآخَرِينَ.
*فَإنَّ مِنَ الكَبْرِ, وَالخُيَلاءِ, وَالخُرُوجِ عَن آدَابِ الْإسْلَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَقِّ الطَّرِيقِ الإسْرَاعُ بِالسَّيَّارَاتِ, وَمُخَالَفَةُ قَوَاعِدِ المُرُورِ, التِي وُضِعَتْ لِتَحْفَظَ عَلَى النَّاسِ أَرْوَاحَهُمْ.
أَلا وَلْيَعْلَمَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذِهِ المَرْكَبَاتِ هِيَ مِن نِعَمِ اللهِ تَعَالَى العَظِيمَةِ, التِي يَجِبُ شُكْرُهَا، وَمِنْ شُكْرِهَا ألَّا يُؤْذَى بِهَا أَحَدٌ مِن النَّاسِ، وَالَّا يُفْسِدَ بِهَا فِي الأرْضِ, وَإذَا كَانَ دِينُنَا الحَنِيفُ قَدْ حَذَّرَ المُسْلِمَ مِن أنْ يَمْشِيَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ يَحْمِلُ سِلاحًا مِنْ أيِّ نَوْعٍ كَانَ بِطَرِيقَةٍ مُخِيفَةٍ؛ لِأنَّ لَهُ تَأثِيرًا عَلَى نُفُوسِ النَّاسِ بِالإزْعَاجِ وَالإِخَافَةِ, فَكَيْفَ بِمَنْ يُلْحِقُ الأَذَى بِالنَّاسِ، أَوْ يُخِيفُهُمْ, أوْ يُزْعِجُهُمْ, أَوْ يُزْهِقُ أَرْوَاحَهُمْ بِسَيَّارَتِهِ.
اترك تعليقاً