*فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ لِلْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ, النَّاهِيَةِ عَنْ كُلِّ شَرٍّ, هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
وَلَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ:
إِنَّ الْعَدْلَ الذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَشْمَلُ الْعَدْلَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى, وَفِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّي الْعَبْدُ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ, وَالْبَدَنِيَّةِ, وَالْمُرَكَّبَةِ مِنْهُمَا فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى, وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِبَادِ؛ بِأَنْ يُعَامِلَ الْعَبْدُ الْخَلْقَ بِالْعَدْلِ التَّامِ، فَيُؤَدِّي كُلَّ وَالٍ مَا عَلَيْهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ, سَوَاءً فِي ذَلِكَ وِلَايَةِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَوِلَايَةِ الْقَضَاءِ, وَنُوَّابِ الْخَلِيفَةِ، وَنُوَّابِ الْقَاضِي.
وَالْعَدْلُ هُوَ مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَأَمَرَهُمْ بِسُلُوكِهِ، وَمِن ذَلِكَ الْعَدْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ فِي عُقُودِ الْبَيْعِ, وَالشِّرَاءِ, وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَيَكُونُ الْعَدْلُ كَذَلِكَ بِإِيفَاءِ جَمِيعَ مَا عَلَيْنَا مِنَ الْحُقُوقِ لِلْآخَرِينَ, فَلَا نَبْخَسْ لِلنَّاسِ حَقًّا, وَلَا نَغُشَّهُمْ, وَلَا نَخْدَعَهُمْ, وَلَا نَظْلِمَهُمْ.
فَالْعَدْلُ وَاجِبٌ، وَالْإِحْسَانُ مُسْتَحَبٌّ, كَنَفْعِ النَّاسِ بِالْمَالِ, وَالْبَدَنِ, وَالْعِلْمِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ, حَتَّى إِنَّهُ لَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ.
وَخَصَّ اللهُ إِيتَاءَ ذِي الْقُرْبَى – وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ – لِتَأَكُّدِ حَقَّهُمْ, وَتَعَيُّنِ صِلَتِهِمْ, وَبِرِّهِمْ, وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَقَارِبِ, لَكِنْ كُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ أَحَقَّ بِالْبِرِّ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى) فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْفَحْشَاءِ: كُلُّ ذَنْبٍ عَظِيمٍ اسْتَفْحَشَتْهُ الشَّرَائِعُ وَالْفِطَرُ, كَالشِّرْكِ بِاللهِ, وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَالزِّنَا, وَالسَّرَقَةِ, وَالْعُجْبِ بِالْعَمَلِ, وَالْكِبْرِ, وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَاحِشِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْمُنْكَرِ: كُلُّ ذَنْبٍ, وَمَعْصِيَةٍ مُتَعَلِّقٌ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى.
وَيَدْخُلُ فِي الْبَغِيِّ: كُلُّ عُدْوَانٍ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدِّمَاءِ, وَالْأَمْوَالِ, وَالْأَعْرَاضِ.
فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَأَمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ, لَمْ يَبْقَ شَيءٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهَا، فَهِيَ قَاعِدَةٌ تَرْجِعُ إِلَيْهَا سَائِرُ الْجُزْئِيَاتِ.
فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عَدْلٍ, أَوْ إِحْسَانٍ, أَوْ إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى, فَهِيَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ.
وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَحْشَاءٍ, أَوْ مُنْكَرٍ, أَوْ بَغْيٍ, فَهِيَ مِمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ.
*ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَبِهَذِهِ الْآيَةِ: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يُعْلَمُ حُسْنُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ, وَقُبْحُ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِهَا يُعْتَبَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْأَقْوَالِ, وَتُرَدُّ إِلَيْهَا سَائِرُ الْأَحْوَالِ، فَتَبَارَكَ مَنْ جَعَلَ فِي كَلَامِهِ الْهُدَى, وَالشِّفَاءَ, وَالنُّورَ, وَالْفُرْقَانَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَشْيَاءَ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (يَعِظُكُمْ به) أَيْ: بِمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ, بِأَمْرِكُمْ بِمَا فِيهِ غَايَةَ صَلَاحِكُمْ, وَنَهْيِكُمْ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّتَكُمْ.
(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أَيْ: بِمَا يَعِظُكُمْ بِهِ؛ فَتَفْهَمُونَهُ, وَتَعْقِلُونَهُ، فِإِنَّكُمُ إِذَا تَذَكَّرْتُمُوهُ, وَعَقَلْتُمُوهُ؛ عَمِلْتُمْ بِمُقْتَضَاهُ, فَسَعِدْتُمْ سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا.
اترك تعليقاً