الإيمان بالقضاء والقدر 2

*فَإنَّ الإيمَانَ بِالقَدَرِ أَحَدُ أَرْكَانِ الإيمَانِ التِي لا يَتِمُّ الإيمَانُ لِعَبْدٍ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهَا، وَلَا يَتِمُّ الإيمَانُ بِالقَدَرِ حَتَّى يُؤْمِنَ العَبْدُ بِأَرْبَعَةِ مَرَاتِبَ لِلْقَدَرِ.
الَمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: مَرْتَبَةُ العِلْمِ, بِأنَّ نَعْلَمَ وَنُوقِنَ وَنُؤمِنَ بِأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، عَلِمَ بِمَا كَانَ, وَعَلِمَ بِمَا سَيَكُونُ, وَعَلِمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ سَيَكُونُ؛ فَهُو يَعْلَمُ السَّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ الجَهْرَ مِن القَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ، وَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّ حَرَكَةٍ فِي هَذَا الوُجُودِ, وَكُلَّ قَطْرَةٍ مِن المَطَرِ تَنْزِلُ, وَيَعْلَمُ مَتَى تَنْزِلُ، وَأَيْنَ تَنْزِلُ، وَكُلَّ خَاطِرَةٍ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ أيْ مَخْلُوقٍ؛ فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُهَا قَبْلَ أنْ يُوجِدَ هَذَا الكَوْنَ.
وَالَمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: هِيَ مَرْتَبَةُ الكِتَابَةِ, فَيَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نُؤْمِنَ بِأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَبَ مَا كَانَ, وَمَا سَيَكُونُ، قَالَ تَعَالَى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) وَقَالَ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) وَهَذَا الكِتَابُ هُو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ وَهُوَ أُمُّ الكِتَابِ, الذِي كَتَبَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُ, فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ؛ فَكَتَبَ مَا هُو كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَالَمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: هِيَ مَرْتَبَةُ المَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ، وَهِيَ: أنْ نُؤْمِنَ بِأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَهُ إِرَادَةٌ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، وَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَيُقَدِّرُ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ وَهُوَ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الذِي يُصَرِّفُهُمْ وَيُدَبِّرُهُمْ كَمَا يَشَاءُ، فَمَشِيئَتُهُ مُطْلَقَةٌ، وَأَمَّا العَبْدُ فَلَهُ مَشِيئَةٌ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) فَمَشِيئَةُ العَبْدِ وَإِرَادَتُهُ وَاخْتِيَارُهُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ أَبَدًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).
وَالَمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: هِيَ مَرْتَبَةُ الخَلْقِ، فَإذَا آمَنَّا بِعِلْمِ اللهِ، وَآمَنَّا بِكِتَابَتِهِ لِذَلِكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَآمَنَّا بِمَشِيئَتِهِ التِي لَا تُرَدُّ, فَيَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نُؤْمِنَ بِالخَلْقِ؛ لِأَنَّ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ خَلْقُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى أَعْمَالُنَا نَحْنُ بَنِي آدَمَ فَهِيَ مَخْلُوقَةُ لِلهِ، وَحَتَّى مَا نَصْنَعَهُ وَمَا نَرْكَبَهُ وَنَفْعَلَهُ أوْ نَبْنِيَهُ وَنَهْدِمَهُ؛ لِأَنَّهَا تَقَعُ بِمَشِيئَتِنَا وَقُدْرَتِنَا اللَّتَيْنِ خَلَقَهُمَا اللهُ تَعَالَى فِينَا, كَمَا خَلَقَ فِينَا بَقِيَّةَ قُوَانَا الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ, قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) وَفِي الحَدِيثِ الذِي صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُ وَغَيْرُهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (اللهُ خَالِقُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ) فَمَهْمَا عَمِلَ الإِنْسَانُ وَإنْ بَنَى أوْ صَنَعَ أوْ عَمِلَ مِنْ طَاعَةٍ أوْ مَعْصِيَةٍ فَكُلُّ ذَلِكَ مِن خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالعَبْدُ فَاعِلٌ، يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الإِرَادِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الْاخْتِيَارِيَّةِ. وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (بَلِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ, فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ يُسِّرَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِن أَهْلِ الشَّقَاوَةِ يُسِّرَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) فَمَتَى عَلِمَ العَبْدُ أنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الجَنَّةِ فَهُوَ مُيَسَّرٌ لِعَمِلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَجْتَهِدُ وَيَحْرِصُ عَلَى أنْ يَسْتَكْثِرَ مِن الخَيْرَاتِ؛ لِيَكُونَ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ.
وَأمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَإنَّهُمْ يُعَارِضُونَ أَمْرَ اللهِ، وَدِينَهُ, بِمَشِيئَةِ اللهِ وَقَضَائِهِ, وَيَعْجَزُونَ عَنِ الطَّاعَةِ، بِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللهِ, وَلَا تَعْجَزْ، فَإنْ أصَابَكَ أَمْرٌ, فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) وَفِي هَذا الحَدِيثِ أَرْبَعَةُ مَرَاتِبَ: فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الحِرْصُ عَلَى مَا يَنْفَعُ. وَالمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الاسْتِعَانَةُ بِاللهِ. وَالمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: المُضِيُّ فِي الأَمْرِ، وَالاسْتِمْرَارُ فِيهِ، وَعَدَمُ الْعَجْزِ. وَهَذِهِ المَرَاتِبُ إِلَيْنَا. وَالمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا حَصَلَ خَلَافَ المَقْصُودِ; فَهَذِهِ لَيْسَتْ إلَيْنَا، وَإنَّمَا هِيَ بِقَدَرِ اللهِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ) أيْ: مِمَّا لَا تُحِبُّهُ وَلَا تُرِيدُهُ, فَفَوِّضِ الأَمْرَ إلَى اللهِ تَعَالَى وَارْضَ بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَكَ.

*فَلَوْ أنَّ إنْسَانًا رَأَى رُؤْيًا صَالِحَةً فِي المَنَامِ بِأنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَةٌ كَثِيرَةٌ مِن الأَبْنَاءِ، وَاسْتَبْشَرَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا، فَإنَّ ذَلِكَ سَيَدْفَعُهُ إلَى أنْ يُبَادِرَ بِالزَّوَاجِ، وَأَلَّا يَتَّخِذَ أيَّ مَانِعٍ يَمْنَعُ الحَمْلَ مِن الأَسْبَابِ المَعْرُوفَةِ لِتَتَحَقَّقَ لَهُ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ. لَكِنْ لَوْ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَلَمْ يَأْخُذْ بِالأَسْبَابِ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إنْسَانًا عَاقِلًا؟!
إِذًا القَدَرُ عِلْمٌ عَلِمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَكِتَابَةٌ كَتَبَهَا، وَشَاءَ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ أنْ تَقَعَ مَشِيئَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ثُمَّ خَلَقَ ذَلِكَ فِينَا؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ أنَّهُ يَجِبُ أنْ نَتَسَابَقَ، وَنَحْرِصَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَنَجْتَهِدُ فِي الطَّرِيقِ المُوصِلِ إلَى مَرْضَاةِ اللهِ, وَإلَى جَنَّةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكَيْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ المُيَسَّرُونَ لَهَا، كَمَا أنَّ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ مُيَسَّرُونَ لَهَا، أَجَارَنَا اللهُ وَإيَّاكُمْ مِن الشَّقَاوَةِ وَأَهْلِهَا.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *