التثبت في الأخبار

*فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أَيْ الْمَوْتُ – وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِى, غُشِىَ عَلَيْهِ سَاعَةً, ثُمَّ أَفَاقَ, فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ, ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى) قَالَتْ: قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا. وَعَرَفْتُ الْحَدِيثَ الَّذِى كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ: (إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِىٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ, ثُمَّ يُخَيَّرُ) قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلَهُ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى).
وَتَسَرَّبَ هَذَا النَّبَأُ الْفَادِحُ, وَالْحَدَثُ الْجَلَلُ, إِلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ, وَوَصَلَ هَذَا النَّبَأُ كَذَلِكَ سَرِيعًا إِلَى الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, وَكَانَ يَسْكُنُ بالسُّنْحِ وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ, فَجَاءَ عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ, وَدَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَالنَّاسُ قَدْ أَصَابَتْهُمْ دَهْشَةٌ عَظِيمَةٌ, فَمِنْهُمُ الْمُصَدِّقُ, وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ, وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَائِمٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ, وَهُوَ يَقُولُ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ, وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْتُلَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ حُجْرَةَ عَائِشَةَ, وَكَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَقَبَّلَهُ, وَقَالَ: طِبْتَ حَيًّا وَمَيْتًا يَا رَسُولَ اللهِ.
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ, وَعُمَرُ يَكَلِّمُهُمْ, فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ. فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ, فَحَمِدَ اللهَ أًبُوُ بَكْرٍ, وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَأْقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ, وَتَرَكُوا عُمَرَ, فَكَانَ فِيمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا, فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ, فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ, ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ: وَاللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآَيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ, فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ, فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ, حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ, وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ, حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا, وَعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ مَاتَ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَكِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ حِينَ وُصُولِهَا إِلَيْنَا, مِنْ أَيِّ شَخْصٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ, فَإِنَّ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا وَصَلَهُ خَبَرُ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, لَمْ يَتَسَرَّعْ, وَيَخُوضَ فِي هَذَا الْأَمْرِ؛ حَثًّا وَتَوْجِيهًا لِلنَّاسِ؛ حَتَّى تَأَكَّدَ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ, بِأَنْ ذَهَبَ, وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَتَأَكَّدَ بِنَفْسِهِ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَحَدَّثَهُمْ.

*فَمَا أَحْوَجَنَا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الذِي اخْتَلَطَتْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَفَاهِيمِ, وَمَعَ انْتِشَارِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمَرْئِيَّةِ, وَالْمَسْمُوعَةِ, وَالْمَقْرُؤةِ بَيْنَ شَرَائِحِ الْمُجْتَمَعِ, وَمَعَ ضَعْفِ الدِّيَانَةِ, وَكَثْرَةِ الْمُرْجِفِينَ, وَالْمُنَافِقِينَ, وَالْكَذَّابِينَ, وَمَعَ كَوْنِ الْكَذِبَةَ تُكْذَبُ فِي الْمَشْرِقِ, فَيَثُورُ لَهَا غُبَارٌ فِي الْمَغْرِبِ, وَالْعَكْسُ, مِنْ اقْتِفَاءِ خُطَى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي التَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ التِي تَرِدُ إِلَيْنَا, وَخَاصَّةً الْأَخْبَارَ الْمُسِيئَةَ لِلْأَخَرِينَ؛ كِبَارًا كَانُوا أَوْ صِغَارًا, وَإِلَّا كَتَمْنَاهَا فَلَا نُحَدِّثُ بِهَا أَحَدًا, قَطْعًا لِدَابِرِ الشَّائِعَاتِ التِي تَنْخَرُ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ, مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ؛ فِإِنَّهُ بِهَذَا يَكُونُ قَدِ اسْتَكْثَرَ جِدًّا مِنَ الْكَذِبِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *