*فَجَاءَ غَلَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ؛ فَأَكَلَ الصِّدِّيقُ مِنْهُ لُقْمَةً, فَقَالَ الْغُلَامُ لِلصِّدِّيقِ: أَتَدْرِي مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا الطَّعَامُ؟ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَمَا كُنْتُ أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ وَلَكِنَّنِي خَدَعْتُ الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي الْيَوْمَ فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الذِي أَكَلْتَ, فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فِي فَمِهِ فَقَاءَ كُلَّ شَيءٍ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ تَخْرُجْ هَذِهِ اللُّقْمَةُ إِلَّا مَعَ نَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا حَمَلَتِ العُرُوقُ، وَخَالَطَ الْأَمْعَاءَ.
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الْكَسْبَ الْحَلَالَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَعِزٌّ مُنِيفٌ، وَمِنْ مَأَثُورِ حِكَمِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ:
يَا بُنَيَّ اسْتَغْنِ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ عَنِ الْفَقْرِ، فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ، إِلَّا أَصَابَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ: رِقَّةٌ فِي دِينِهِ، وَضَعْفٌ فِي عَقْلِهِ، وَذَهَابُ مُرُوءَتِهِ.
أَلَا وِإنَّ فِي الْكَسْبِ الْحَلَالِ صَلَاحُ الْأَمْوَالِ, وَالْأَحْوَالِ, وَسَلَامَةُ الدِّينِ، وَصَوْنُ الْعِرْضِ, وَالْكَرَامَةُ, والشَّرَفُ, وَجَمَالُ الْوَجْهِ، وَمَقَامُ الْعِزِّ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا, وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ – أَيْ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ -، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ – أَيْ شَرَّهُ – دَخَلَ الْجَنَّةَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: قَدِ ابْتُلِيَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَلْوَانٍ شَتَّى مِنْ طُرُقِ الْكَسْبِ الْمُحَرَّمِ, وَمِنْ هَذِهِ الطُّرُقٍ: سُؤَالِ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا, فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلاَلِىِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: (أَقِمْ, حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا) قَالَ: ثُمَّ قَالَ: (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا, ثُمَّ يُمْسِكُ, وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – أَيْ مَا يُقِيمُ مَعِيشَتَهُ -, وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ؛ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ, فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ, فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).
وَلَقَدْ ذَكَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ لَا يَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ مِن ثَلَاثَةٍ أَشْخَاصٍ:
الْأَوَّلُ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً؛ يَعْنِي الْتَزَمَ فِي ذَمَّتِهِ مَالًا مِنْ أَجْلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنِ النَّاسِ، فَهَذَا الرَّجُلُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَقْضِي مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْمَالِ, ثُمَّ يُمْسِكُ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا.
وَالثَّانِي: رَجُلٌ أَصَابَتُهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ كَنَارٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ عَدُوٍّ, فَهَذَا الرَّجُلُ كَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ.
وَالثَّالِثُ: رَجُلٌ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ بِدُونِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ, وَبِدُونِ جَائِحَةٍ مَعْلُومَةٍ, فَهَذَا الرُّجُلُ كَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ, لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنَّ فُلَانًا أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ, فَيُعْطَى بِقَدْرِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْفَقْرِ.
فَهَؤُلَاءِ الثَّلاثَةُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الذِينَ تَحِلُّ لَهُمُ الْمَسْأَلَةُ, ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ: (فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).
وَالسُّحْتُ هُوَ الْحَرَامُ, وَسُمِّيَ سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَتُ بَرَكَةَ الْمَالِ، وَرُبَّمَا يَسْحَتُ الْمَالَ كُلَّهُ, فَيُصِيبَهُ بِسَبَبِهِ آفَاتٌ تَسْحَتُ مَالَهُ مِنْ أَصْلِهِ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ).
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ لِيُكَثِّرَ بِهَا مَالَهُ؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا, فَإِنِ اسْتَكْثَرَ؛ زَادَ الْجَمْرُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَقَلَّ؛ قَلَّ الْجَمْرُ، وَإِنْ تَرَكَ سُؤَالَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ سَلِمَ مِنَ الْجَمْرِ.
*فَفِي التِّرْمِذِي قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَنْ تَزُولَا قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: – وَذَكَرَ مِنْهَا – (وَعْنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ, وَفِيمَ أَنْفَقَهُ).
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الرُّجُلَ إِذَا تَعَبَّدَ, قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ: انْظُرُوا مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ؟ فِإِنْ كَانَ مِنْ مَطْعَمِ سُوءٍ، قَالَ الشَّيْطَانُ: دَعُوهُ يُتْعِبُ نَفْسَهُ وَيَجْتَهِدُ, فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ.
وَلَقَدْ كَانَتْ بَعْضُ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: اتْقِ اللهِ فِينَا وَلَا تُطْعِمُنَا إِلَّا مِنْ حَلَالٍ, فَإِنَّا نَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ, وَلَا نَصْبِرُ عَلَى النَّارِ.
فَطُوبَى مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَنْ أَكَلَ طَيِّبًا, وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ, وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ.
اترك تعليقاً