*فَفِي الصَّحِيحَيْن, قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ, وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أيْ أَحَقُّ أَنْ لَا تُحَقِّرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ جَامِعٌ لِأَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْخَيْرِ؛ اسْتَنْقَصَ الْحَالَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، أَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ؛ تَبَيَّنَتْ لَهُ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالشُّكْرِ, وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَنْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا, فَإِنَّ بَرِيقَ أَمْوَالِهِمْ يَذْهَبُ بِحَلَاوَةِ إِيمَانِكُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: (رَحِمَ اللهُ عَبْدًا نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ؛ فَحَمِدَ اللهَ وَشَكَرَهُ، وَفِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَجَدَّ وَاجْتَهَدَ) وَعَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ مَرْفُوعًا: (خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ, كَتَبَهُ اللهُ شَاكِرًا صَابِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُو دُونَهُ؛ فَحَمِدَ اللهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ، وَمَن نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا وَلَابُدَّ أَنْ يُبْتَلَى, إِمَّا بِالْخَيرِ أَوْ بِالشَّرِّ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وَمَعْنَى فِتْنَةً: أَيْ لِأَجْلِ الْفِتْنَةِ لِنَنْظُرَ أَتَصْبِرُونَ وَتَشْكُرُونَ, أَمْ تَجْزَعُونَ وَتَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجُرٍ, قَالَ: مَا مِنِ النَّاسِ إِلَّا: مُبْتَلًى بِعَافِيَةٍ لِيُنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُهُ؟ أَوْ: مُبْتَلًى بِبَلِيَّةٍ لِيُنْظُرَ كَيْفَ صَبْرُهُ؟.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَى مَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ حَالًا, وَأَشَدُّ بَلَاءً؛ عَرَفَ عَظِيمَ مِقْدَارِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ؛ فَحَمِدَ اللهَ وَشَكَرَهُ عَلَى نَعْمَائِهِ, وَأَمَّا مَنَ ارْتَفَعَ نَظَرُهُ, فَأَصْبَحَ يَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ فَإِنِّهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَزْدَرِيَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ, وَيَسْتَنْقِصَهَا, وَيَفْقِدَ شُكْرَهَا؛ وَمَتَى فَقَدَ الْعَبْدُ الشُّكْرَ تَرَحَّلَتْ عَنْهُ النِّعَمُ, وَتَسَابَقَتْ إِلَيْهِ النِّقَمُ، وَامْتُحِنَ بِالْغَمِّ الْمُلَازِمِ، وَالْحُزْنِ الدَّائِمِ، وَالتَّسَخُّطِ لِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا, وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الدِّينِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنَ الْمُفَرِّطِينَ, فَانْكَسَرَتْ نَفْسُهُ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ عَلَى تَقْصِيرِهِ, وَقَرَعَ بَابَ التَّوْبَةِ بِأَنَامِلِ النَّدَمِ, وَجَدَّ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَاجْتَهَدَ.
أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَى الشُّكْرِ مَدَارُ الْخَيْرِ, وَازْدِيَادُ النِّعَمِ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: (يَا مُعَاذُ: إِنِّي أُحِبُّكَ، فَلَا تَدَعَنَّ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ, وَشُكْرِكَ, وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
أَلَا وَاعْلَمُوا كَذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ فَاهْتَدَى بِهَذَا الْهَدْيِ الَّذِي أَرْشَدَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَطَهَّرَ قَلْبُهُ مِنْ دَاءِ الْحَسَدِ, وَلَمْ يَزَلْ شُكْرُهُ فِي قُوَّةٍ وَازْدِيَادٍ، وَلَمْ تَزَلْ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِ تَتْرَى وَتَتَوَالَى.
أَلَا وَاعْلَمُوا أَيْضًا كَذَلِكَ أَنَّ الشَّاكِرَ لِرَبِّهِ حَقًا هُوَ مَنْ قَامَ بِأَرْكَانِ الشُّكْرِ الثَّلَاثِ: الشُّكْرُ بِالْقَلْبِ, وَالشُّكْرُ بٍاللِّسَانِ, وَالشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ, فَيَشْكُرُ اللهَ بِقَلْبِهِ بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَشْكُرُ اللهَ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يَتَحَدَّثَ بِهَا، وَيَشْكُرُ اللهَ بِجَوَارِحِهِ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ.
*فلَقَدْ ضَرَبَ لَنَا السَّلَفُ الصَّالِحُ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي شُكْرِهِمْ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ, فَعَنْ بَكْرِ الْمُزَنِيِّ, أَنَّهُ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكَ فَأَغْمِضْ عَيْنَيْكَ.
وَعَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ, أنَّهُ قَدِمَ مِنَ الْحَجِّ, فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْنَا فِي سَفَرِنَا بِكَذَا وَكَذَا, ثُمَّ قَالَ: تَعْدَادُ النِّعَمِ: شُكْرُهَا.
وَعَنْ سَلَامِ بْنِ سُلَيْمٍ, قَالَ: كُنْ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ فِي دِينِكَ, أَشْكَرُ مِنْكَ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ فِي دُنْيَاكَ.
أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ مِنَ السُّنَنِ الْمَهْجُورَةِ أَنْ نَشْكُرَ النَّاسَ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ, سَوَاءً مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا أَوِالدِّينِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: )لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ) فَأَقِيمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَعَوِّدُوا أَوْلَادَكُمُ الشُّكْرَ, وَرَدَّ الْجَمِيلِ, لِكُلِّ مَنْ صَنَعَ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ, فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ, فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ, فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا, فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ).
اترك تعليقاً