مناقب الإمام الشافعي

*الْحَمْدُ لِلهِ الذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ, يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى, وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الرَّدَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَهْلَ الْجَهَالَةِ وَالرَّدَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ آثَارَهُمْ عَلى النَّاسِ: يَنْفُونَ عَنْ دِينِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَأْوِيلَ الضَّالِّينَ, تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, أَمَّا بَعْدُ:
فَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُخْرِجُ مَا فِي ضَمِيرِي، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ خَاطِرِي مِنْ أَمْرِ التَّوْحِيْدِ فَالشَّافِعِيُّ، فَصِرْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِ مِصْرَ، فَلَمَّا جَثَوْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: هَجَسَ فِي ضَمِيرِي مَسْأَلَةٌ فِي التَّوْحِيْدِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ عِلْمَكَ، فَمَا الَّذِي عِنْدَكَ؟ فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: أتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هَذَا المَوْضِعُ الَّذِي أَغْرَقَ اللهُ فِيْهِ فِرْعَوْنَ. أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَمَرَ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هَلْ تَكَلَّمَ فِيْهِ الصَّحَابَةُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: تَدْرِي كَمْ نَجْمًا فِي السَّمَاءِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَكَوْكَبٌ مِنْهَا: تَعْرِفُ جِنْسَهُ، طُلُوْعَهُ، أُفُولَهُ، مِمَّ خُلِقَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَشَيْءٌ تَرَاهُ بِعَيْنِكَ مِنَ الخَلْقِ لَسْتَ تَعْرِفُهُ، تَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ خَالِقِهِ؟! قَالَ: ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الوُضُوْءِ، فَأَخْطَأْتُ فِيْهَا. فَقَالَ: شَيْءٌ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، تَدَعُ عِلْمَهُ، وَتَتَكَلَّفُ عِلْمَ الخَالِقِ، إِذَا هَجَسَ فِي ضَمِيرِكَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى اللهِ، وَإِلَى قَوْلِهِ تعَالَى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْم * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فَاسْتَدِلَّ بِالمَخْلُوْقِ عَلَى الخَالِقِ، وَلاَ تَتَكَلَّفْ عِلْمَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عَقْلُكَ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: فَتُبْتُ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ فِي تَارِيخِ الْعُظَمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي سِيَرِ الْعُلَمَاءِ لَعِبَرًا، وَإِنَّ فِي أَحْوَالِ النُّبَلَاءِ لَمُدَّكَرًا، وَإِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ فِي الْفَضْلِ شُمُوسٌ سَاطِعَةٌ, وَفِي الْعِلْمِ نُجُومٌ لَامِعَةٌ, فَهُمْ بِحَقٍّ أَنْوَارُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، ألَا وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ هَؤَلَاءِ الْأَئِمَّةِ، الإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيْسَ الشَّافِعِيَّ, أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: إِنَّ اللهَ يُقَيِّضُ لِلنَّاسِ فِي رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ مَنْ يُعلِّمُهُمُ السُّنَنَ، وَيَنْفِي عَنْ رَسُوْلِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الكَذِبَ, قَالَ: فَنَظَرنَا، فَإِذَا فِي رَأْسِ المائَةِ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ، وَفِي رَأْس المائَتَيْنِ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ، قُلْتُ لِأَبِي: أَيَّ رَجُلٍ كَانَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنِّي سَمِعتُكَ تُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ؟ قَالَ: يَا بُنِيَّ، كَانَ كَالشَّمْسِ لِلدُّنْيَا، وَكَالعَافِيَةِ لِلنَّاسِ، فَهَلْ لِهَذَيْنِ مِنْ خَلَفٍ، أَوْ مِنْهُمَا عِوَضٌ؟
وَقَالَ الرَّبِيْعُ بنُ سُلَيْمَانَ: كَانَ الشَّافِعِيُّ يَخْتِمُ القُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِتِّيْنَ خَتْمَةً. رَوَاهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ، فَزَادَ: كُلُّ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ.
وَقَالَ الرَّبِيْعُ: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الفُقَهَاءُ العَاملُوْنَ أَوْلِيَاءَ اللهِ، فَمَا لِلهِ وَلِيٌّ.
وَمِنْ مَأَثُورِ أَقْوَالِهِ رَحِمَهُ اللهُ: بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ: الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ.
وَقَالَ يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْمًا فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى، أَلَا يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ البُوَيْطِيَّ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ: أُصَلِّي خَلْفَ الرَّافِضِيِّ؟ قَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَ الرَّافِضِيِّ، وَلاَ القَدَرِيِّ، وَلاَ المُرْجِئِ. قُلْتُ: صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: مَنْ قَالَ: الإِيْمَانُ قَوْلٌ، فَهُوَ مُرْجِئٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَيْسَا بِإِمَامَيْنِ، فَهُوَ رَافِضِيٌّ، وَمَنْ جَعَلَ المَشِيْئَةَ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ قَدَرِيٌّ.

*فقَدْ َقِيْلَ للشَّافِعِيِّ: مَا لَكَ تُكْثِرُ مِنْ إِمسَاكِ العَصَا، وَلَسْتَ بِضَعِيْفٍ؟
قَالَ: لِأَذْكُرَ أَنِّي مُسَافِرٌ – أَيْ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ -.
وَقَالَ المُزَنِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا رَاحِلًا، وَلإِخْوَانِي مُفَارِقًا، وَلِسُوءِ عَمَلِي مُلاَقِيًا، وَعَلَى اللهِ وَارِدًا، مَا أَدْرِي رُوْحِي تَصِيْرُ إِلَى جَنَّةٍ فَأُهَنِّيهَا، أَوْ إِلَى نَارٍ فَأُعَزِّيهَا، ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُوْلُ:
إِلَيْــــــــــكَ إِلَهَ الْخَلْقِ أَرْفَعُ رَغْبَتِي وَإِنْ كُنْتُ يَا ذَا الْمَنِّ وَالْجُودِ مُجْرِمَا
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَــــاقَتْ مَذَاهِبِي جَعَلْتُ رَجَــــــائِي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِـــــــــــــي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِّي كَــــــــانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ تَجُــــــــــــــــودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
فَإِنْ تَنْتَقِمْ مِنِّــــــــــي فَلَسْتُ بِآيِسٍ وَلَوْ دَخَلَتْ نَفْسِي بِجُرْمِـــــي جَهَنَّمَا
فَجُرْمِي عَظِيمٌ مِنْ قَدِيــــمٍ وَحَادِثٍ وَعَفْوُكَ يَا ذَا الْعَفْوِ أَعْلَى وَأَجْسَــــمَا

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *