نعمة الأمن في الأوطان

*فَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ تَمُرُّ، وَكُلِّ نَفَسٍ بِنَا يَجْرِي, يُنْعِمُ اللهَ عَلَيْنَا فِيهِ أنْوَاعًا مِنَ النِّعَمِ تَفُوقُ كُلَّ الظُّنُونِ, وَالتَّقْدِيرَاتِ (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وَإنَّ مِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ النِّعَمِ، نِعْمَةُ الْأَمْنِ فِي الْأوْطَانِ, وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الأَهْلِ والدِّيَارِ، ذَلِكَ الأَمْنُ الذي بِدُونِهِ تَفْقِدُ الحَيَاةَ كُلَّ مَعْنًى جَمِيلٍ, وَتُصْبِحُ قِطْعَةً مِن الجَحِيمِ الَّذِي لَا يُطَاقُ، لا يَعْرِفُ المَرْءُ حِينَهَا إذا أَصْبَحَ هَلْ يُمْسِي؟ وإِذَا أَمْسَى هَلْ يُصْبِحُ؟ فَيَعِيشُ المَرْءُ فِي أَرْضٍ لَا يَأْمَنُ فِيهَا عَلَى نَفْسٍ, وَلَا عِرْضٍ, وَلَا أَهْلٍ, وَلَا مَالٍ.
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: لَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى حَالَ المُسْلِمِينَ فِي مَكْةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ مُمْتَنًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ, وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ, وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ, لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أَلَا وَإِنَّهَا لَنِعْمَةٌ مِن اللهِ عَلَيْنَا عَظِيمَةٌ, وَمِنَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى جَلِيلَةٌ؛ إذْ أزَاحَ عَنَّا الخَوْفَ, وَنَجَّانَا مِن المَكَارِهِ, كَمَا امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) وَلَقَدْ كَانَ أَهْلُ مَكْةَ تُجَّارًا يُسَافِرُونَ فِي تِجَارَتِهِم صَيْفًا وَشِتَاءً, آمِنِينَ فِي العَرَبِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ، وَكَانَتِ العَرَبُ إذَّاكَ يُغِيرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا تَقْدِرُ عَلَيهِ قُرَيشٌ مِن التَّنَقُّلِ فِي التِّجَارَةِ, لِخَوفِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ, حَتَّى إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيُصَابُ فِي حَيٍّ مِن أحْيَاءِ العَرَبِ, فَمَا إنْ يُقَالَ أَنَّهُ حَرَمِيٌّ (نِسْبَةً إلَى الحَرَمِ) إلَّا خُلِّيَ عَنْهُ تَعْظِيمًا لِمَكَّةَ وَتَجَنُّبًا لِإِيذَاءِ أَهْلِهَا، وَلِهَذَا لَفَتَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنْظَارَ قُرَيْشٍ إلَى عِظَمِ هَذِهِ النِّعْمَةِ المُسْتَوْجِبَةِ لِلشُّكْرِ.
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: وَهُنَالِكَ نِعْمَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ, وَمِنَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى جَلِيلَةٌ؛ أَلَا وَهِيَ مَا يُعْرَفُ اليَومَ بِالأَمْنِ الغِذَائِيِّ, أوِ الأَمْنِ الاقْتَصَادِيِّ, الذِي هُو مِن أَعْظَمِ مُقَوِّمَاتِ حَيَاةِ الإنْسَانِ وَبَقَائِهِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ اقْتَرَنَتِ المِنَّةُ بِهِ مَعَ المِنَّةِ بِالأَمْنِ مِن الخَوْفَ (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: إنَّ هَذَا لَيُذَكِّرُنَا بِالحَكْمَةِ العَظِيمَةِ مِن دُعَاءِ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِمَكْةَ حَيْنَ أَرَاَدَ إعْمَارَهَا, فَإنَّهُ دَعَى لَهَا بِدَعْوَتَيْنِ: الْأَمْنِ، وَالرِّزْقِ، وَهَاتَانِ النِّعْمَتَانِ هُمَا أَسَاسُ الحَيَاةِ، وَبِهِمَا يَحْصُلُ الأَمْنُ النَّفْسِيُّ وَالرَّاحَةُ القَلْبِيَّةُ، إذَا انْضَافَا إلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيْمَانِ بِاللهِ, وَحِينَ يَتَحَقَّقُ لِلْإِنْسَانِ ذَلِكَ فَإنَّهُ قَدْ حَازَ أَهَمَّ مَا فِي الحَيَاةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ, مُعَافًى فِي جَسَدِهِ, مَعَهُ قُوتَ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بَحَذَافِيرِهَا).
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: إنَّ عَلَيْنَا اليَوْمَ وَنَحْنُ نَعِيشُ فِي بَحْبُوحَةٍ مِن الأَمْنِ, وَرَغَدٍ مِنَ العَيْشِ, أنْ نَعُودَ بِأَذْهَانِنَا قَلِيلًا إلَى الوَرَاءِ؛ لِنَتَذَكَّرَ بَعْضًا مِنْ أَيَّامِ اللهِ التِي مَرَّتْ عَلَى هَذَا المُجْتَمَعِ, بِمَا فِيهَا مِن خَوْفٍ, وَفَزَعٍ, وَفَقْدٍ لِلْأرْوَاحِ, وَالأَمْوَالِ؛ لِنُدْرِكَ مَدَى مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا مِن رَفْعٍ لِتَلْكَ الكُرُوبِ, وَتَفْرِيجٍ لِتَلْكَ الخُطُوبِ, التِي هِي مِن سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الابْتِلَاءِ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أَلَا وَإِنَّ تَذَكُّرِنَا لِتَلْكَ الْأَحْدَاثِ أَدْعَى لِلْاعْتِبَارِ, وَأَجْلَبُ لِشُكْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نِعْمَةِ الْأَمْنِ وَالاطْمِئِنَانِ, قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ, وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

*فَإنَّ أَهَمَّ سُؤَالٍ يَنْبَغِي أنْ يُطْرَحَ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُو كَيْفَ نَشْكُرُ نَعْمَةَ الْأَمْنِ وَرَغَدِ العَيْشِ؟ وَلَقَدْ نَصَّ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ شُكْرَ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكُونُ بِصَرْفِ هَذِهِ النِّعَمِ فِيمَا يُرْضِي اللهَ.
فَمَا أَجْدَرَنَا أنْ نَجَعَلَ مِنْ أَمْنِ بِلادِنَا مُنَاسَبَةَ شُكْرٍ دَائِمَةٍ لِلهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى مَرْضَاتِهِ, وَالْابْتِعَادِ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُهُ سُبْحَانَهُ.
رَبَّنَا أَوْزِعْنَا أنْ نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمَتَ عَلَيْنَا وَعَلَى وَالِدِينَا وَأنْ نَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *