*فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (اتَّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تمحُهَا، وخالقِ الناسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَتَقْوَى اللهِ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ تَكُونُ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، فَإِنْ وَقعَ الْمُسْلِمُ فِي وَحْلِ سَيِّئَةٍ, كَأَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ, أَوْ يَرْتَكِبَ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنْهَا, فَالْوَاجِبُ عَلَيهِ أَنْ يُلْحِقَ هَذهِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ, إِمَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ السِّيَّئَةِ, أَوْ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَةٍ أُخْرَى, فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ, تَمْحُ هذهِ السَّيِّئَةَ مِنْ صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ, وَكَذَلِكَ تَمْحُ أَثَرَهَا السَّيِّئِ فِي الْقَلْبِ, قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) ثُمَّ خَتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْجَامِعَةَ بِالْأَمْرِ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ, وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَعَامَلَ مَعَهُم كمَا تُحِبُّ أَنْ يَتَعَامَلُوا مَعَكَ، وَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ الْقُلوبُ، وَتَتَّفِقُ الْكَلِمَةُ، وَتَنْتَظِمُ الْأَحْوَالُ, قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: (حُسْنُ الخُلُقِ: بَسْطُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى). وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا:
الْفَائِدَةُ الْأُوْلَى: الْأَمْرُ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ) تَأْصِيلٌ لِمُرَاقَبَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي السَّرِّ وَالْعَلَنِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ تَقْوَى الْإِنْسَانِ لَا تَعْصِمُهُ مِن وُجُودِ زَلَّاتٍ, سُرْعَانَ مَا يَتَبَصَّرُ فِيهَا الْمُتَّقِي, وَيَرْجِعُ إِلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِن حَالِهِ قَبْلَ الذَّنْبِ, وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ (وَأتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا) بَعْدَ قَوْلِهِ (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ).
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْحَسَنَةِ عَقِبَ السَّيِّئَةَ يَمْحُو السَّيِّئَةَ, وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ أَحْيَانًا تَفْرِيطٌ فِي التَّقْوَى: إِمَّا بِتَرْكِ بَعْضِ الْمَأمُورَاتِ، أَوْ بِارْتِكَابِ بَعْضِ الْمَحْظُورَاتِ، فَأَمَرَهُ اللهُ بِفِعْلِ مَا يَمْحُو ذَلِكَ التَّفْرِيطَ, بِأَنْ يُتْبِعَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ.
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: يُرَبِّي الْحَدِيثُ فِي الْمُسْلِمِ: الْخَوْفَ, وَالرَّجَاءَ، فَتَقْوَى اللهِ تُرَبِّي فْي الْمُسْلِمِ الْخَوْفَ, وَفَتْحُ بَابِ التَّوْبَةِ, وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَات يُرَبِّي فِي الْمُسْلِمِ الرَّجَاءَ, وَهُمَا مَنْزِلَتَانِ عَظِيمَتَانِ, مِنْ مَنَازِلِ أَعْمَالِ القُلُوبِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: التَّرْغِيبُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، وَهُوَ مِنْ خِصَالِ التَّقْوَى, الَّتِي لَا تَتِمُّ التَّقْوَى إِلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ بِحَقِّ اللهِ دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بِلِ الْجَمْعُ بَيْنَ حُقُوقِ اللهِ, وَبَيْنَ حُقُوقِ عِبَادِهِ هُوَ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا، وَهُوَ عَزِيزٌ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا الْكُمَّلَ مِنَ الْخَلْقِ.
*فَالْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْعَى لِتَرْبِيَةِ أَهْلِهِ عَلَى زَوَالِ الْعَدَاوَاتِ بَيْنَهُمْ, وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ (وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ).
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ فِي الشَّرِيعَةِ تُبْذَلُ لِلنَّاسِ جَمِيعًا, سَوَاءً أَحْسَنُوا إِلَيْكَ أَوْ أَسَاءُوا, وَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأَنَّهَا لَا تُبْذَلُ إِلّا لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ, بَلْ جَعَلَهَا عَامَّةً, فَقَالَ: (وَخَالِقِ النَّاسَ) أَيْ جَمِيعًا مَن أَحْسَنَ, وَمَنْ أسَاءَ.
اترك تعليقاً