الساعي وراء الحقيقة

*فَإِذَا أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا, هَيَّأَ لَهُ الْأَسْبَابَ, رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا, أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ, قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًا مِنْ أَهْلِ أَصْفَهَانَ, وَكَانَ أَبِي دَهْقَانُ قَرْيَتِهِ أَيْ أَمِيرُهُمْ، وَكُنْتُ أَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إِلِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِي كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتّى كُنْتُ قَطِنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا, لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُوا سَاعَةً, وَكَانَتْ لِأَبِي مَزَارِعُ عَظِيمَةٍ، فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ مَزَارِعِي, فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ مَزَارِعَهُ, فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارى, فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ؛ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَّمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ, وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ, دَخَلْتُ عَلَيْهِم أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا رَأيْتَهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ, وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الذي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَسَألْتُ النَّصَارَى عَنْ أَصْلِ دِينِهِمْ، فَقَالُوا: فِي الشَّامِ، فَوَ اللهِ مَا تَرْكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ, وَتَرَكْتُ مَزَارِعَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَأَرْسَلَ أَبِي فِي أَثَرَيْ مَنْ يَبْحَثُ عَنِّي، وَقُلْتُ لِأَبِي حِينَ عُدْتُ إِلَيْهِ مَا رَأَيْتُ, وَأُعْجِبتُ بِهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ, لَيسَ فِي ذَلِكَ الدُّينِ خَيْرٌ، دِينُكُ, ودِينُ آبَائِكِ خَيْرٌ مِنْهُ، فَقُلْتُ: كَلَّا وَاللهِ, إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا، فَخَافَنِي أَبِي, فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا, ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّصَارَى أُعْلِمُهُمْ أَنَّي قَدْ دَخَلْتُ فِي دِينِهِمْ، وَأَنَّ يَبْحَثُوا لِي عَنْ رَكْبٍ إِلَى الشَّامِ لِأَرْحَلَ مَعَهُمْ، وَقَدْ فَعَلُوا, فَحَطَّمْتُ الْحَدِيدَ، وَخَرَجْتُ، وَانْطَلَقْتُ إِلَى الشَّامِ, فَسَأَلْتُ عَنْ عَالِمِهِمْ, فَقَالُوا لِي: الْأٌسْقُفُ, فَأَتَيْتُهُ, وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي، فَأَقَمْتُ مَعَهُ أَخْدِمُهُ, وَأُصَلِّي, وَأَتَعَلَّمُ، وَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ فِي دِينِهِ, يَجْمَعُ الصَّدَقَاتِ مِنَ النَّاسِ, ثُمّ يَكْتَنِزُهَا لِنَفْسِهِ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَأبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا؛ لِمَا رَأيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سُوءٍ, يَأمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ, وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا, فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا, اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ, وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا، فَأَرَيْتَهُمْ مَوْضِعَ كَنْزِهِ، فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالُوا: وَاللهِ, لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا، وَصَلَبُوهُ, ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالحِجَارَةِ، ثُمَّ جَاؤُوا بِرَجُلٍ آخَرَ, فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ, فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى دِينِهِمْ خَيْرًا مِنْهُ، وَلَا أَعْظَمَ رَغْبَةً فِي الْآخِرَةِ, وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا, وَدَأَبًا عَلَى الْعِبَادَةِ, وَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا عَظِيمًا, فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قُلْتُ لَهُ: بِمَ تَأْمُرُنِي, وَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ إِلَّا رُجُلًا بِالْمَوْصِلِ، فَلَمَّا مَاتَ أَتَيْتُ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ فَأْخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أُقِيمَ, ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ, فَسَألْتُهُ فَدَلَّنِي عَلَى عَابِدٍ فِي نُصَيْبِينَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ, وَأَخْبَرْتُهُ, وَأَقَمْتُ مَعَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أُقِيمَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ, أَمَرَنِي أَنْ أَلْحَقَ بِرَجُلٍ فِي عَمُّورِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَرَحَلْتُ إِلَيْهِ, وَأَقَمْتُ مَعَهُ, وَاكْتَسَبْتُ لِمَعَاشِي, حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٍ, وَغُنَيْمَاتٍ، ثُمّ حَضَرَتُهُ الْوَفَاةُ, فقُلْتُ لَهُ: إِلَى مَنْ تُوصِي بي؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَا أَعْرِفُ أَحَدًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ, أُوْصِيكَ بِهِ، لَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا, يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتِينِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَخْلُصَ إِلَيْهِ فَافْعَلْ, وَإِنَّ لَهُ آيَاتٌ لَا تَخْفَى، فَهُوَ لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَإِنَّ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ, إِذَا رَأيْتَهُ عَرَفْتَهُ, وَمَرَّ بِي رَكْبٌ ذَاتَ يَوْمٍ, فَسَأَلْتَهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ, فَأَعْلَمُونِي أَنَّهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ, فَقُلْتُ لَهُمْ: أُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ, وَغَنَمِي, عَلَى أَنْ تَحْمِلُونِي مَعَكُمْ إِلَى أَرْضِكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَاصْطَحَبُونِي مَعَهُمْ, حَتَّى قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى، فَظَلَمُونِي, وَبَاعُونِي عَبْدًا إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَرَأَيْتُ نَخْلًا كَثِيرًا فَطَمِعْتُ أَنْ تَكُونَ هِيَ مُهَاجَرُ النَّبِيِّ الْمُنْتَظَرِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَ الرَّجُلِ الَّذِي اشْتَرَانِي, حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ يَوْمًا رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ بَنِي قُرَيظَةَ، فَاشْتَرَانِي مِنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِي, حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَوَاللهِ, مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأيْتُهَا حَتَّى أَيْقَنْتُ أَنَّهَا الْبَلَدُ الَّذِي وُصِفَ لِي, فَأَقَمْتُ مَعَ الْيَهُودِيِّ, أَعْمَلُ لَهُ فِي نَخْلِهِ حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ, وَإِنِّي لَفِي رَأْسِ نَخْلَةٍ يَوْمًا, وَصَاحِبِي جَالِسٌ تَحْتَهَا, إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِيَّ عَمِّهِ، فَقَالَ يُخَاطِبُهُ: يَا فُلَانُ قَاتَلَ اللهُ بَنِي قَيْلَةَ – يَعْنِيْ الْأَنْصَارَ- وَاللهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ عَلَى رَجُلٍ بِقِبَاءَ, قَادِمٌ مِنْ مَكَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ, فَوَاللهِ, مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَالَهَا حَتَّى أَخَذَتْنِي العُرَوَاءُ- يَعْنِي الرِّعْدَةَ – فَرَجَفَتْ النَّخْلَةُ حَتّى كِدْتُ أَسْقُطُ فَوْقَ صَاحِبِي, ثُمَّ نَزَلْتُ سَرِيعًا, أَقُولُ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَا الْخَبَرُ؟ فَرَفَعَ الْيَهُودِيُّ يَدَهُ, وَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَالَكَ وَلِهَذَا؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ، فَأَقْبَلْتُ عَلَى عَمَلِي.

*فقالَ سلمانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَلَمَّا أَمْسَيْتُ جَمَعْتُ مَا كَانَ عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجْتُ, حَتّى جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِبَاءَ, فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ, وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ, وَغُرْبَةٍ، وَقَدْ كَانَ عِنْدِي طَعَامٌ نَذَرْتُهُ لِلصَّدَقَةِ، فَلَمّا ذُكِرَ لِي مَكَانُكُمْ, رَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ النَّاسِ بِهِ, ثُمَّ وَضَعْتْهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ, وَأَمْسَكَ هُوَ فَلَمْ يَأْكُلْ، فَقُلْتُ لِنَفْسِي: هَذِهِ وَاللهِ وَاحِدَةٌ، إِنّهُ لَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، ثُمَّ رَجَعْتُ, وَعُدْتُ إِلَيْهِ فِي الْغَدَاةِ، أَحْمِلُ طَعَامًا، وَقُلْتُ: إِنِّي رَأْيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيءٌ أُحِبُّ أَنْ أُكْرِمَكَ بِهِ هَدِيَّةً، وَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدِيهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ، وَأَكَلَ مَعَهَمْ، قُلْتُ لِنَفْسِي: هَذِهِ وَاللهِ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، ثُمَّ رَجَعْتُ, فَمَكَثْتُ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ فِي الْبَقِيعِ قَدْ تَبِعَ جَنَازَةً, مَعَ أَصْحَابِهِ, وَعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ مُتَّزِرًا بِوَاحِدَةٍ, فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ, ثُمَّ عَدَلْتُ لِأَنْظُرَ إِلَى ظَهْرِهِ، فَعَرَفَ أَنِّي أُرِيدُ ذَلِكَ، فَأَلْقَى بُرْدَتَهُ عَنْ كَاهلِهِ, فَإِذَا الْعَلَامَةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، خَاتُمُ النُّبُوَّةِ كَمَا وَصَفَهُ لِي صَاحِبِي، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ, وَأَبْكِي، ثُمّ دَعَانِي عَلْيِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ, فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِي، قَالَ: فَأَعَجَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ. فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللهُ هَذَا الْجُهْدَ, الْعَظِيمَ, الْمَبْذُولَ, بَحْثًا عَنِ الْحَقِيقَةِ, وَاحْمَدُوا اللهَ أَنْ هَدَاكُمْ إِلَيْهَا بِلَا مَشَقَّةٍ, وَلَا عَنَاءٍ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *