*فَأَتَى الْإِسْلَامُ هِدَايةً لِلنّاسِ وَنُورًا, يُخْرِجُ اللهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ مُؤَكِّدًا عَلَى وُجُوبِ لُزُومِ مَنْهَجِ الْوَسَطِيَّةِ فِي أَبْوَابِ الْعَبَادَاتِ، وَالْاعْتِقَادِ، وَالْحُكْمِ, وَالتَّحَاكُمِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيِّ عَنِ المُنْكَرِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَبْوَابِ, فَأَضْحَتِ الْوَسَطِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ مَنْهَجًا, مُتَكَامِلًا شَامِلًا، لَا يَنْفَصِلُ بَعْضَهُ عَنْ بَعْضِ, قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وَإِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةِ: الْاعْتِدَالُ فِي الْإِنْفَاقِ، فَقَدْ أَثْنَى رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَوْلَيَائِهِ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَجَعَلَ الْعَدْلَ, وَالْوَسَطَ مِنْ صِفَاتِهِمُ, الْمُلَازِمَةِ لَهُم, فَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) وَذمَّ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلّ الْإِسْرَافَ, وَالتَّبْذِيرَ وَجَعَلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ, فَقَالَ تَعَالَى: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) وَأَخْبَرَ جَلَّ جَلَالُهُ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ لِعِبَادِهِ, فَقَالَ تَعَالَى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ هَذِهِ الْآيَةِ, أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تُسْرِفُواْ).
وَحَذَرَّ تَعَالَى مِنْ عَاقِبَةِ الْإِسْرَافِ, وَالتَّبْذِير, فقالَ تَعَالَى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) أَيْ: لَا تَكُنْ بَخِيلًا, وَلَا مُسْرِفًا فِي الْإِنْفَاقِ؛ فَتَقْعُدَ مَلُومًا, يَلُومُكَ النَّاسُ وَيَذُمُّونَكَ، نَادِمًا عَلَى تَبْذِيرِكَ, وَضَياعِ مَالِكَ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِنِّي لَأُبْغِضُ أَهْلَ بَيْتٍ, يُنْفِقُونَ رِزْقَ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: الْإِسْرَافُ دَاءٌ قَتَّالٌ، وَمَرَضٌ عُضَالٌ، يَهْدِمُ مُرْتَكَزَاتِ الْأُمَمِ, وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُبَعْثِرُ الْأَمَوَالَ, وَيُبَدِّدُ الثَّرَوَاتِ.
وَالْمُتَتَبِّعُ لِظَاهِرَةِ الْإِسْرَافِ, وَالتَّبْذِيرِ، لَيَرَى أَسْبَابًا تَدْعُو إِلَيْهَا، وَدَوَافِعَ تَبْعَثُ عَلَيْهَا، فَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ:
أَوَّلًا: جَهْلُ الْمُسْرِفِينَ بِأَحْكَامِ الدِّينِ الَّذِي يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ, وَالتَّبْذِيرِ.
ثَانِيًا: حُبُّ الْمُسْرِفِ لِلْمُبَاهَاةِ, وَالتَّفَاخُرِ، وَرَغْبَتُهُ الْعَارِمَةُ فِي التَّسَابُقِ, وَالتَّكَاثُرِ.
ثَالِثًا: مُصَاحَبَةُ الْمُسْرِفِينَ؛ لِأَنَّ الصَّاحِبَ يَتَأَثَّرُ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَيَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ).
رَابِعًا: التَّقْلِيدُ, وَاتِّبَاعُ الْعَادَاتِ، فَإِذَا نَشَأَ الْإِنْسَانُ فِي بِيئَةٍ تَعَوَّدَتِ السَّرَفَ, وَالتَّبْذِيرَ, حَاوَلَ مُسَايَرَتَهُمْ فِي حَيَاةِ الْبَذَخِ, وَالْإِسْرَافِ، حَتَّى أُصِيبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسُعَارِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، وَالتَبَعِيَّةِ الْجَوْفَاءِ, بِلَا تَمْحِيصٍ مِنْهُمْ, وَلَا بَصِيرَةٍ.
خَامِسًا: قِلَّةُ النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْإِسَرَافِ, وَالتَّبْذِيرِ، وَضَعْفُ الْاهْتِمَامِ بِآثَارِهِ الضَّارَّةِ, عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَالدِّينِ, وَالدُّنْيَا، فَلَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ تِلْكَ الْعَوَاقِبَ، وَوَضَعَهَا فِي عَقْلِهِ, وَقَلْبِهِ, لَمَا رَأَيْنَا كَثِيرًا مِنْ مَظَاهِرِ السَّرَفِ، وَتَبْدِيدِ الثَّرَوَاتِ؛ الَّتِي طَغَتْ حَتَّى أَصْبَحَتْ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ حَيَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ إِضَاعَةَ الْمَالِ، وَالْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (كُلُوا, وَاشْرَبُوا, وَتَصَدَّقُوا, وَالْبَسُوا, فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ, وَلَا مَخِيلَةٍ) وَالْمَخِيلَةُ هِيَ الْكِبْرُ, أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِسْرَافَ, وَالتَّبْذِيرَ, قَدْ تَعَدَّدَتْ, مَظَاهِرُهُمَا، وَتَنَوَّعَتْ أَشْكَالُهُمَا, كَالْإِسْرَافِ فِي الْمَآكِلِ, وَالْمَشَارِبِ, وَخُصُوصًا فِي الْمُنَاسَبَاتِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ, الَّتِي يَنْفَضُّ النَّاسُ عَنْهَا, تَارِكِينَ سَبِيلَ أَكْثَرِ الطَّعَامِ, يَذْهَبُ إِلَى حَاوِيَاتِ النُّفَايَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَقَامَ لَيَسْتَدْعِي – يَا رَعَاكُمْ اللهُ – لَفْتَ انْتِبَاهَكُمُ الكَرِيمَ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبَاقِيْ مِنَ الطَّعَامِ, فَالصَّالِحُ مِنُهُ لِلْاسْتِخْدَامِ الْآدَمِيِّ, يَنْبَغِيْ أَنْ يُرْسَلُ لِقِسْمِ الْوَلَائِمِ فِي الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ فِي حَائِلِ, وَأَمَّا غَيْرُ الصَّالِحِ فَيُرْسَلُ لِلْمَنْشَرِ الْمُهَيَّئِ مِنْ قِبَلِ أَمَانَةِ الْمَنْطِقَةِ.
*فَمِنَ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ؛ الْإِسْرَافُ فِي الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ, وَالْمَنَافِعِ الْحَيَوِيَّةِ؛ كَالْمَاءِ, وَالْكَهْرُبَاءِ، فَكَمْ مِنْ مِيَاهٍ, تُهْدَرُ بِلَا دَاعٍ, وَكَمْ مِنْ طَاقَاتٍ كَهْرُبائِيَّةٍ, تُضَيَّعُ بِلَا مُوجِبٍ، وَكَمْ مِنْ مَصَابِيحَ لَا تُطْفَأُ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ؟! وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ, الْمَمْقُوتِ, وَالتَّبْذِيرِ الْمُسْتَقْبَحِ، وَعَلَيْهِ فَيَجْدُرُ التَّنْبِيهُ – مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ – عَلَى ضَرُورَةِ الْاسْتِخْدَامِ الْأَمْثَلِ فِي تَشْغِيلِ الْأَجْهِزَةِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ, وَالْإِنَارَةِ, خَاصَّةً فِي أَوْقَاتِ الذِّرْوَةِ مَا بَيْنَ السًّاعَةِ الثَّانِيَةِ عَشَرَ ظُهْرًا, حتى الْخَامِسَةَ عَصْرًا, خِلَالَ أَشْهُرِ الصَّيْفِ, لِكَيْ يَنْعَمَ الْجَمِيعُ بِاسْتِمْرَارِ الْخِدْمَةِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ, بِالْكَفَاءَةِ الْمَطْلُوبَةِ, دُونَ انْقِطَاعٍ.
اترك تعليقاً