*فَكَتبَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِالْعِلمِ كُلِّهِ, فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الْعِلمَ كَثِيْرٌ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلقَى اللهَ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيْصَ الْبَطنِ مِنْ أَمْوَالِهِم، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِم، لَازمًا لِأَمْرِ جَمَاعَتِهِم، فَافعَلْ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: فِي هَذَا الْأَثَرِ أَرْبَعَةُ مَسَائِلَ عِظَامٍ, أَرَادَ هَذَا الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهَا؛ لِعَظِيمِ خَطَرِ ضِدِّهَا, بَعْدَ قِيَامِ الْإِنْسَانِ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ, وَأَرْكَانِهِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْأَثَرِ: أنْ يَمُوتَ الْإِنْسَانُ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دَمَاءِ النَّاسِ, وَالْمُرَادُ بِهِ هَا هُنَا: الْقَتْلُ عَمْدًا, بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ, سَوَاءً كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا, أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومَ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ, فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ, مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) أَيْ لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُنْشَرَحَ الصَّدْرِ, مُطْمَئِنَ النَّفْسِ, فِي سَعَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, طَالَمَا أَنَّهُ لَمْ يقْتُلْ نَفْسًا, بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.
وَاعْلَمُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَمْدًا, بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ, مُسْلِمًا, فَيَتَعَلَّقُ فِي رَقَبَةِ الْقَاتِلِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ:
الحقُ الأولُ: حَقُّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا عَنِ الْقَاتِلِ, إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ, وَهِيَ الَّتِي اجْتَمَعَتْ فِيهَا شُرُوطُ التَّوْبَةِ, وَشُرُوطُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ثَلَاثَةٌ: أوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا عَمِلَ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ.
وَالثَّانِي: تَرْكُ الزَّلَّاتِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ, وَالسَّاعَاتِ.
وَالثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِ مَا اقْتَرَفَ مِنَ الْمَعَاصِي, وَالْخِطِيئَاتِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ قَبْلَ غَرْغَرَةِ الرُّوحِ, وَقَبْلَ خُرُوجِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْربِهَا.
وَالْحَقُ الثَّانِي: حَقُّ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ, فَيُخَيَّرُونَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ مَجَّانًا, أَوْ يَأْخُذُونَ الدِّيَةَ, أَوْ الْقِصَاصُ.
وَالْحَقُّ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَشَدُّ هَذِهِ الْحُقُوقِ؛ وَهُوَ حَقُّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا, وَعُدْوَانًا, فَهَذَا الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ أَبَدًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ, سَوَاءً عُفِيَ عَنِ الْقَاتِلِ, أَوْ رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ بِالدِّيَةِ, أَوْ قُتِلَ الْقَاتِلُ قِصَاصًا, فَلَا يَسْقُطُ هَذَا الْحَقُّ حَتَّى يَلْتَقِي الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ عِنْدَ اللهِ, فَيَقْتَصُّ اللهُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالمِ, وَفِي الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ, مِنْ عِرْضِهِ, أَوْ شَيْءٍ, فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ, قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ, وَلَا دِرْهَمٌ, إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ, أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ, أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) أَيْ حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ, بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْأَثَرِ: أَنْ يَبْتَعِدَ الْإِنْسَانُ عَنِ الطُّرُقِ الخَبِيثَةِ في تَحْصِيلِ الْمَالِ الْمُحَرَّمِ؛ كَالرِّبَا, وَالْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ, وَمُخَادَعَةِ النَّاسِ, وَالتَّحَايُلِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَخْذِ أمْوَالِهِم, بِإظْهَارِ الْحَاجَةِ تَارَةً, أَوْ بِأيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِدَاعِ تَارَةً أُخْرَى, وَكَالسَّرِقَةِ, وَالْغِشِّ, وَالْغَصْبِ, وَنَحْوِهَا (وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ, فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) وَالسُّحْتُ هُوَ: كُلُّ مَالٍ حَرَامٍ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْأَثَرِ: كَفُّ اللِّسَانِ عَن أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ, وَذَلِكَ بِالْبُعْدِ عَنِ الْغِيبَةِ, وَالْغِيْبَةُ هِيَ: ذِكْرُكُ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَيْبُ مَوْجُودًا فِيهِ حَقِيقَةً, وَقَدْ شَبَّهَ اللهُ الْمُغْتَابَ, بِآكِلِ لِحْمِ أَخِيهِ مَيْتًا, وَأَعْظُمُ مِنَ الْغِيبَةِ وَأَقْبَحُ رَمْيُ الْمُسْلِمِ كَذِبًا, وَزُورًا, بِمَا هُو لَيْسَ فِيهِ, وَهُوَ البُهْتَانُ عَلِيهِ, وَأَشَدُّ أَنْوَاعِ الْبُهْتَانِ قَذْفُ الْمُسْلِمِ بِالزِّنَا, أَوْ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ مِنْ فَضَائِعِ الْأُمُورِ, الَّتِيْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا, وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ فِي الْآخِرَةِ.
*فَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْأَثَرِ: أَنْ يَلْزَمَ الْمُسْلِمُ الْحَرِيصُ عَلَى نَجَاةِ نَفْسِهِ, جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ, وَإِمَامَهُمْ, فَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَمرِ الْجَمَاعَةِ, وَلَوْ جُلِدَ ظَهْرُهُ, وَأُخِذَ مَالُهُ, لِمَا وَرَدَ مِنَ التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ, فِي وُجُوبِ لُزُومِ أَمْرِ الْجَمَاعَةِ, فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ, فَلْيَصْبِرْ, فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ, إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ, وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ, وَأُخِذَ مَالُكَ, فَاسْمَعْ وَأَطِعْ).
اترك تعليقاً