وصايا أبي الدرداء 1

*فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَا حِكمَةٍ بَلِيغَةٍ، تَأَثَّرَ النَّاسُ بِكَلامِهِ, وَعَمَلِهِ، حَتَّى أَصْبَحَ وَاعِظًا لَهُم, نَاطِقًا, وَصَامِتًا.
فَمِنْ أَقْوَالِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (اطْلُبُوا الْعِلْمَ, فَإِنْ عَجَزْتُمْ, فَأَحِبُّوا أَهْلَهُ، فَإنْ لَمْ تُحِبُّوهُم, فَلَا تُبْغِضُوهُم).
وَقَولُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (اطْلُبُوا الْعِلْمَ فَإِنْ عَجَزْتُم) لَأَنَّ النَّاسَ لَيْسُوا كُلُّهُمْ مُؤَهَّلِينَ لَأَنْ يَكُونُوا طَلَبَةَ عِلْمٍ, وَمُقْبِلِينَ عَلَى التَّعَلُّمِ، فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَأَحِبُّوا أَهْلَهُ) لَأَنَّ مَحَبَّةَ أَهْلِ الْعِلْمِ, تَجْعَلُ الْمُحِبَّ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، فَتَجْعَلُهُ يَسْألُهُمْ وَيَقْتَدِي بِأَقْوَالِهِمْ, وَأَفْعَالِهِم.
فَإنَّ لَمْ تَحْصُلِ الْمَحَبَّةٌ، فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَلَا تُبْغِضُوهُم) لَأَنَّ بُغْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ, بُغْضٌ لِصَفْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاللهُ جَلَّ وَعَلا أَمَرَنَا بِمَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا، وَأَوْلَى أَهْلُ الْإِيمَانِ بِالْمَحَبَّةِ أَكْثُرُهُم خَشْيَةً, وَأَكْثَرُهُمْ عِلْمًا.
وَأَهْلُ الْعِلْمِ لَيْسُوا كَامِلِينَ أَوْ مَعْصُومِينَ, لَكِنْ إِشَاعَةُ النَّقْصِ بَيْنَ النَّاسِ, يُؤَدِّي إِلَى تَزْهِيدِ النَّاسِ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمِمَّنْ يَأخُذُ النَّاسُ الشَّرِيعَةَ إِنْ لَمْ يَأخُذُوهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؟ وَلِهَذَا جَاءَتْ وَصِيَّةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (اطْلُبُوا الْعِلْمَ, فَإِنْ عَجَزْتُمْ, فَأَحِبُّوا أَهْلَهُ، فَإنْ لَمْ تُحِبُّوهُم, فَلَا تُبْغِضُوهُم) وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ الجَامِعَةُ جَاءَتْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ إِجْلَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ, الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِكِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَمِنْ أَقْوَالِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا: (إِنِّي لَآمُرُكُمْ بِالْخَيرِ، وَمَا كُلُّ مَا أَمَرْتُكُم بِهِ فَعَلْتُهُ، وَلَكِنِّي أَرْجُو الْأَجْرَ بِأَمْرِكُمْ) وَهَذَا مِنَ الْفِقْهِ الْعَظِيمِ فِي دِينِ اللهِ, وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ أَنَّهُ يَأْمُرُ, وَلَا يَفْعَلُ، فَإنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤمِنَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخَيْرِ, وَعَلَيْهِ أَنْ يَمْتَثِلَ الْخَيْرَ، فَإِنْ فَاتَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الْآخَرَ, فَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَأْمُرُ بِمُسْتَحَبَّاتٍ, وَبِأَشْيَاءَ مِنَ الْخَيْرِ لِكَي يَفْعَلُوهَا, وَلَيْسَ كُلُّ مَا أَمَرَهُم بِهِ فَعَلَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لَأنَّهُ مُنْشَغِلٌ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ فِي حَقِّهِ، وَأَمَّا إِذَا سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ وَكَانَ فِي فَرَاغٍ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُرَغِّبُ فِي الْخَيْرِ, وَيُقْبِلُ عَلَى فِعْلِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبَّ * وَإِلَى رَبِّكَ فارْغَب) يَعْنِي بِأَنْوَاعِ الْوَاجِبَاتِ, وَالْمُسْتَحَبَّاتِ.
فَعَلَيْنَا أَنْ نَنْتَبِهَ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ لِهذِهِ المَقَالَةِ, وَلِهَذَا الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ جَيْدًا؛ لِأَنَّ حَالَنَا الْيَوْمَ وَلِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ أَنَّا إِذَا كُنَّا عَلَى شَيءٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالتَّقْصِيرِ: تَرَكْنَا الْأَمْرَ بِالْخَيْرِ, بِدَعْوَى أَنَّنَا لَا نَمْتَثِلُ الْخَيْرَ, وَتَرَكْنَا النَّهْيَ عِنِ الْمُنْكَرِ بِدَعْوَى أَنَّنَا نَفْعَلُ الْمُنْكَرَ، وَهَذَا غَلَطٌ كَبِيرٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَأمُرَ وَنَمْتَثِلَ، فَإِنْ فَاتَنَا الْامْتِثَالُ, فَلْنَتَدَارَكِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيَّ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ نَمْتَثِلَ هَذَا, وَنَجْتَنِبَ هَذَا، فَهَذا وَاجِبٌ، وَهَذَا وَاجِبٌ، وَإِذَا فَاتَكَ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُفَوِّتَ الْآخَرَ.

*فَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ, فَقَالَ: (سَلاَمٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِطَاعَةَ اللهِ, أَحَبَّهُ اللهُ، فِإِذَا أَحَبَّهُ اللهُ, حَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَإِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ, أَبْغَضَهُ اللهُ، وَإِذَا أَبْغَضَهُ اللهُ بَغَّضَهُ إِلَى خَلْقِهِ) فَمَا أَحْوَجَنَا مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ لِلنَّصِيحَةِ فِيمَا بَيْنَنَا, وَتَذْكِيرِ بَعْضِنَا الْبَعْضَ, بِعِبَارَةٍ, أَوْ رِسَالَةٍ, كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ سَلَفُنَا الصَّالِحُ رَحِمَهُم اللهُ, فَهَا هُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَنْصَحُ لِلْأَمِيرِ مَسْلَمْةَ وَيُذَكِّرُهُ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِطَاعَةِ اللهِ, أَحَبَّهُ اللهُ, وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَإِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ, أَبْغَضَهُ اللهُ, وَبَغَّضَهُ إِلَى خَلْقِهِ.
وَيُسْتَفَادُ مِن هَذَا بِالْمُقَابِلِ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ نُفْرَةً مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ, وَالصَّلَاحِ الصَّادِقِ, فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْحَثَ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ وَيَتِّهِمَ نَفْسَهُ الْخَطَّاءَةَ, فِإِنَّ مِنْ عَوَاقِبِ الذُّنُوبِ: وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الْخَيْرِ, وَأَصْحَابِ الطَّاعَةِ, كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللهُ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *