الاستغفار

*فقد عَلِمَ اللهُ تَعَالَى مَا فِي الْخَلْقِ منَ ضَعْفٍ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قُصُورٍ وَنَقْصٍ, قَدْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ، فَفَتَحَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ بَابَ الْأَمَلِ فِي الْعَفْوِ, وَالْمَغْفِرَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْجَئُوا إِلَى سَاحَاتِ كَرَمِهِ, وَخَزَائِنِ فَضْلِهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا, لَذَهَبَ اللهُ تَعَالَى بِكُمْ, وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ, فَيْسْتَغْفِرُونَ اللهَ تَعَالَى, فَيَغْفِرُ لَهُمْ) وَإِنَّ حَالَ أَهْلِ التَّقْوَى وَأَرْبَابِ الْهُدَى, أَنَّهُمْ إِذَا أَذْنَبُوا, اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا أَخْطَئُوا, تَابُوا, كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَإِنَّ مِنْ وَاسِعِ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ, أَنَّهُ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ, لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَلَّا يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ, وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ آثامُهُ (وَمَن يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلَّا الضَّآلُّونَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِإِخْلَاصِ الدِّينِ, وَإِدَامَةِ الْاسْتِغْفَارِ، فَقَالَ تَعالَى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَـهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ واَلْمُؤْمِنَـاتِ) فَفِي أَبِي دَاوُدَ والتِّرْمِذِيِّ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَةٍ, يَقُولُ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي, وَتُبْ عَلَيَّ, إِنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) وَهَكَذَا هُوَ شَأْنُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، يَلْجَئُونَ إِلَى اللهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُكْثِرُونَ مِنَ التَّوْبَةِ, وَالْاسْتِغْفَارِ، صَادِقِينَ, مُخْلِصِينَ, غَيْرَ يَائِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ, وَلَا مُصِرِّينَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّـابِرِينَ وَالصَّـادِقِينَ وَالْقَـانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِنَا, وَمَزِيدِ فَضْلِهِ عَلَيْنَا, مَا رَتَّبَ عَلَى الْاسْتِغْفَارِ مِن عَظِيمِ الْجَزَاءِ, وَسَابِغِ الْفَضْلِ, وَالْعَطَاءِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وَالْاسْتِغْفَارُ يَدْفَعُ اللهُ بِهِ, عَنِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ ضُرُوبًا مِنَ الْبَلَاءِ, وَالنِّقَمِ، وَصُنُوفًا مِنَ الرَّزَايَا وَالْمِحَنِ، كَمَا قَالَ عز وجل سُبْحَانَهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْغَيْثِ الْمِدْرَارِ، وَحُصُولِ الْبَرَكَةِ فِي الْأَرْزَاقِ, وَالثَّمَارِ، وَكَثْرَةِ النَّسْلِ, وَالنَّمَاءِ, كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ, حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) وَالْمُسْتَغْفِرُونَ يُمَتِّعُهُمْ رَبُّهُمْ مَتَاعًا حَسَنًا، فَيَهْنَئُونَ بِحَياةٍ طَيِّبَةٍ، ويُسْبِغُ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ مَزِيدًا مِنْ فِضْلِهِ, وَإِنْعَامِهِ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) وَفِي مُلَازَمَةِ الْاسْتِغْفَارِ تَفْرِيجٌ لِلْكُرُوبِ, وَالْهُمُومِ، وَمَخْرَجٌ مِنْ ضَائِقَاتِ الْأُمُورِ، وَحُصُولٌ لِلرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ الْعَبْدُ، فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ لَزِمَ الْاسْتِغْفَارَ, جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْفَضَائِلَ وَالْمِنَحَ, إِنَّمَا تَحْصُلُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ اللهَ تَعَالَى حَقًّا, إِذِ الْاسْتِغْفَارُ لَيْسَ بَأَقْوَالٍ تُرَدِّدُهَا الْأَلْسُنُ، وَإِنَّمَا الْاسْتِغْفَارُ الْحَقُّ, مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ, وَاللِّسَانُ، وَنَدِمَ صَاحِبُهُ عَلَى مَا بَدَرَ مِنْهُ مِنْ ذُنوُبٍ, وَآثَامٍ، وَعَزَمَ أَلَّا يَعُودَ إِلَى اقْتِرَافِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ هَذِهِ أَرْكَانُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ, الَّتِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى، وَوَعَدَ عَلَيْهَا تَكْفِيرَ الْخَطِيئَاتِ, فَقَالَ تَعَالَى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـارُ) قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْاسْتِغْفَارُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَحِلُّ عُقَدَ الْإِصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجِنَانِ، وَلَيْسَ التَّلَفُّظُ بِمُجَرَدِ اللِّسَانِ، فَمَنِ اسْتَغْفَرَ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ مُصِّرٌّ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، فَاسْتِغْفَارُهُ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَرَةُ اسْتِغْفارِهِ, تَصْحِيحُ تَوْبَتِهِ, فَهُوَ كَاذِبٌ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ, وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ, كَالْمُسْتَهْزِئُ بِرَبِّهِ.

*فَإنَّ مِمَّا صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ جَوَامِعِ أَدْعِيَةِ الْاسْتِغْفَارِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ, أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (سَيِّدُ الْاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي, لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ, خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ, وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ, وَوَعْدِكَ, مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي, فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ, مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا, فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي, فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ, وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا, فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ, فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وَفِي أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ قَالَ: اسْتَغْفِرُ اللهَ, الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ, الْحَيُّ, الْقَيُّومُ, وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؛ غُفِرَتْ ذُنُوبُه, وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *