قارون

*فَلَقَدْ كَانَ قَارُونُ مِنْ أَقْرِبَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ آتَاهُ اللهُ كَثِيرًا مِنَ الْمَالِ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أَمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ حَمْلُهَا لِكَثْرَتِهَا، وَثِقْلِ وَزْنِهَا، لَكِنَّهُ طَغَى وَبَغَى، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ نَاصِحِينَ لَهُ: لَا تَبْطَرْ، وَلَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ, وَالْمَالِ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ, وَآلَائِهِ عَلَيْهِمْ, وَاسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللهُ مِنَ الْمَالِ الْجَزِيلِ، وَالنِّعْمَةِ الكَبِيرَةِ، فِي طَاعَةِ رَبِّكَ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، مِمَّا أَبَاحَهُ اللهُ فِيهَا لِعِبَادِهِ، مِنَ الْمَآكِلِ, وَالْمَشَارِبِ, وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِهَا, وَأَحْسِنْ إِلَى خَلْقِ اللهِ, كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ, وَإِيَّاكَ وَالْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَالْإِسَاءَةَ إِلَى خَلْقِ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ, فَأَجَابَ قَارُونُ نَاصِحِيهِ مِنْ قَوْمِهِ: إِنَّ اللهَ إِنَّمَا أَعْطَاهُ هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ، وَلِأَنَّهُ يُحِبُّهُ, فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ قَارُونَ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هَذَا الْمَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنْهُ لَهُمْ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالَى الْمُجْرِمِينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَا يُعَاتِبُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنِّمَا يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَمَ دُونَ سُؤَالٍ لَهُمْ.
وَخَرَجَ قَارُونُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَومِهِ، وَهُوَ فِي زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَيَمِيلُ إِلَى زُخْرُفِهَا, وَزِينَتِهَا مِنْ قَوْمِهِ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعْطَوْنَ مِثْلَ مَا أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ الْمَالِ، لِأَنَّهُ فِي نَظَرِهِمْ: لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ فِي الدُّنْيَا, فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَهُمْ, قَالُوا لَهُمْ: الْوَيْلُ, وَالْهَلَاكُ لَكُمْ عَلَى مَا تَمَنَّيْتُمْ، فَمَا يَدَّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزَاءٍ, وَثَوَابٍ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ, خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَهُ، وَلَا يَفُوزُ بِالْجَنَّةِ, وَنَعِيمِهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ, إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى هَذَا الدِّينِ، الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِرًا, مُتَفَاخِرًا عَلَى قَوْمِهِ، وَهُوَ فِي حِلْيَتِهِ, وَزِينَتِهِ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ, وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَأَصْبَحَ هُوَ, وَدَارُهُ, وَأَمْوَالُهُ, وَخَزَائِنُهُ, لَا أَثَرَ لَهُمْ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ, وَعَذَابِهِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ, وَلَا جَمْعُهُ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نِقْمَةَ اللهِ, وَعَذَابَهُ, وَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ، مَا حَلَّ بِهِ, وَبِمَالِهِ، قَالُوا: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ أَيْ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ, وَيُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ, وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ, وَلَوْلَا لُطْفُ اللهِ بِنَا لِأَعْطَانَا مَا سَأَلْنَا، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ،ُ فَخَسَفَ بِنَا الْأَرْضَ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِرًا بِرَبِّهِ، وَلَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ تَعَالَى, ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَتَمَ قِصَّةَ قَارُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وَالدَّارُ الْآخِرَةُ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي جَعَلَها اللهُ خَالِصَةً لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ اسْتِكْبَارًا, وَلَا تَعَاظُمًا عَلَى خَلْقِ اللهِ، وَلَا تَجَبُّرًا، وَلَا فَسَادًا فِي الْأَرْضِ, وَالْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي الْآخِرَةِ، جَعَلَهَا اللهُ لِمَنْ مَلَأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبَهُ، وَاتَّقَى عَذَابَ رَبِّهِ بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ, وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ).
وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ إِذَا رَغِبَ الْإِنْسَانُ فِي التَّجَمُّلِ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ, فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدَ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا, وَنَعْلِي حَسَنَةً, فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ).

*فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ, وَارْضَوْا بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ, وَالصَّحَّةِ, وَغَيْرِهَا, وَاعْلَمُوا أَنَّهَا إِنَّمَا قُسِمَتْ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ, مِنَ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وَاعْلَمُوا أَنَّ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الْأَرْزَاقِ, وَالتَّطَبُّبَ مِنَ الْأَمْرَاضِ, وَكُلَّ سَعْيٍ وِفْقَ السُّنَنِ الشَّرْعِيَّةِ, وَالْقَدَرِيَّةِ, لَا يُعَارِضُ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ, بَلْ هُوَ مِنَ الرِّضَى بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ, وَالْمَحْذُورُ هُوَ الْاعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ فِي خَلْقِهِ, وَالتَّسَخُّطُ عَلَى عَطَائِهِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *