*فَلَقَدْ حَذَّرَ الْإِسْلَامُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ، أَوِ الْمُمَاطَلَةِ فِي قَضَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَـا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ) وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَيَقُولُ: (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ, إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ, وَأَمْوَالَكُمْ, وَأَعْرَاضَكُمْ, عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) وَيُؤَكِّدُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ) وَهُوَ مُتَأَيِّدٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ أَمَانَةٌ عُظْمَى، قال تَعَالَى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا) بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ أَدَاءِ الدِّيُونِ, ثُمَّ سَاقَ الْآيَةَ بِتَمَامِهَا.
وَفِي الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ, فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ, وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيِهِ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، فَطُرِحَ فِي النَّارِ) وَلَقَدْ اسْتَثْنَى دِينُ الْإِسْلَامِ, دَيْنَ الْآدَمِي مِنْ قَاعِدَةِ الْمُكَفِّرَاتِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَغْفِرُ اللهُ لِلشَّهِيدِ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّينَ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: (الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيءٍ إِلَّا الدَّيْنِ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا, أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِيهِمْ, فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ, وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعْمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ, مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ, غَيْرُ مُدْبِرٌ، إِلَّا الدَّيْنَ, فَإِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِي ذَلِكَ).
وَمِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى جَنَازَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَفِي الْمُسْنَدِ, عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ, فَغَسَّلْنَاهُ, وَحَنَّطْنَاهُ, وَكَفَّنَّاهُ, ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ, فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ, فَخَطَا خُطًى, ثُمَّ قَالَ: (أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟) قُلْنَا: دِينَارَانِ, فَانْصَرَفَ, فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ, فَأَتَيْنَاهُ, فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُحِقَّ الْغَرِيمُ, وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ) قَالَ: نَعَمْ, فَصَلَّى عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: (مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ) فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ, قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنْ الْغَدِ, فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً, صَلَّى, وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: (صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ) فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ, قَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ, فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ, وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَامْتِنَاعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدِينِ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ شَفَاعَةٌ، وَشَفَاعَتُهُ لَا تُرَدُّ، بَلْ هِيَ مَقْبُولَةٌ، وَالدَّيْنُ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْمَدِينِ إِلَّا بِالتَّأْدِيَةِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَلَا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمُمَاطَلَةَ وَالتَّأْخِيرَ فِي تَوْفِيَةِ الْحَقِّ, مَعَ وُجُودِ الْمَالِ ظُلْمٌ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَالْمُرَادُ تَأْخِيرُ مَا اسْتُحِقَّ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ, مِنَ الشَّخْصِ الْقَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ مَا فِي ذِمَّتِهِ.
*فَيَجِبُ أَنْ يَنْطَلِقَ المُسْلِمُ فِي الدَّيْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ مَقَاصِدَ حَسَنَةٍ، وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ عَلَى الْوَفَاءِ، وَمِنْ نِيَّةٍ طَيِّبَةٍ فِي الْقَضَاءِ، فَلَا يُبَيِّتُ نِيَّةً سَيِّئَةً، وَلَا يُخْفِي مَقْصَدًا خَبِيثًا، فَفِي الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا, أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَتَأْدِيَةُ اللهِ عَنْهُ تَشْمَلُ تَيْسِيرَهُ تَعَالَى لِقَضَائِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَدَاءَهُ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ, بِإِرْضَاءِ مَدِينِهِ بِمَا شَاءَ اللهُ, إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْعَبْدِ الْقضَاءُ, وَالْحَذَرُ مِنْ تَبْيِيتِ نِيَّةٍ سَيِّئَةٍ, بِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَمَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْإتْلَافِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ: (وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا, أَتْلَفَهُ اللهُ) وَالْإِتْلَافُ هُنَا يَشْمَلُ: إِتْلَافَ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِهَا، وَيَشْمَلُ أَيْضًا إِتْلَافَ طِيبِ عَيْشِهِ, وَتَضْيِيقَ أُمُورِهِ، وَتَعَسُّرَ مَصَالِحِهِ، وَمَحْقَ بَرَكَتِهِ، فَضْلًا عَمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
اترك تعليقاً