الشائعات

*فَمُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْخَلِيقَةَ, وَالصِّرَاعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ, قَائِمٌ عَلَى أَشُدِّهِ، وَكَانَ هَذَا الصِّرَاعُ يَسْتَهْدِفُ جَسَدَ الْإِنْسَانِ, وَمُقَدَّرَاتِهِ، إِلَّا أَنَّ هُنَاكَ حَرْبًا هِي أَشَدُّ فَتْكًا, وَتَدْمِيرًا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَهْدِفُ عَقْلَ الْإِنْسَانِ, وَفِكْرَهُ, وَكَيَانَهُ، إِنَّهَا حَرْبُ الشَّائِعَاتِ, وَالشَّائِعَاتُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَخْطَرِ الْحُرُوبِ الْمَعْنَوِيَّةِ، بَلْ هِيَ أَشَدُّ مِنْ الْأَسْلِحَةِ تَخْرِيبًا, وَتَدْمِيرًا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ اتَّخَذَ الْإِسْلَامُ مَوْقِفًا حَازِمًا مِنَ الْإِشَاعَاتِ, وَأَصْحَابِهَا، لِمَا لِنَشْرِهَا بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ آثَارٍ سَلْبِيَّةٍ عَلَى تَمَاسُكِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ, فَحَثَّ عَلَى التَّثَبُّتِ, وَالتَّبَيُّنِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ, فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا – وَفِي قِرَاءَةٍ: فَتَثَبَّتُوا – أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) وَأَخْبرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ, وَمُحَاسَبٌ عَنْ أَقْوَالِهِ, وَأَفْعَالِهِ, فَقَالَ تَعاَلَى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيِهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ نَهَى الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُطْلِقُوا الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَيُلْغُوا عُقُولَهُمْ عِنْدَ كُلِّ شَائِعَةٍ، وَيُصَدِّقُوا قَوْلَ كُلِّ نَاعِقٍ, وَزَاعِقٍ، فَفِي صَحِيِحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا – وَفِي رِوَايَةٍ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا – أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) والْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ, بِلَا تَثَبُّتٍ, فَقَدَ اسْتَكْثَرَ جِدًّا مِنَ الْكَذِبِ, وَالْإِثْمِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَيْسَ كُلُّ مَا يُسْمَعُ يُقَالُ، وَلَا كُلُّ مَا يُقَالُ يُصَدَّقُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُلْغِي عَقْلَهُ، وَيُرَدِّدُ فِي الْمَجَالِسِ كُلَّ مَا سَمِعَهُ دُونَ تَفْكِيرٍ, أَوْ رَوِيَّةٍ, فَالْكَلِمَةُ شَأْنُهَا عَظِيمٌ, وَخَطَرُهَا جَسِيمٌ، فَكَمْ دَمَّرَتِ الشَّائِعَاتُ مِنْ دُوَلٍ وَمُجْتَمَعَاتٍ، وَحَطَّمَتْ مِنْ أُمَمٍ وَحَضَارَاتٍ، وَكَمْ نَالَتْ مِنْ عُلَمَاءَ وَعُظَمَاءَ، بَلْ لَرُبَّ شَائِعَةٍ أَثَارَتْ حَرْبًا شَعْواَءَ, وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا كَلَامٌ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَتِ الشَّائِعَاتُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَسَهُلَ انْتِشَارُهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ وَسَائِلِ الْإعْلَامِ وَالْاتِّصَالَاتِ الَّتِي جَعَلَتِ الْعَالَمَ قَرْيَةً صَغِيرَةً، وَإِنَّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي يُرَوِّجُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ وَالْوَطَنِ, لَهِي صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْإِرْهَابِ النَّفْسِيِّ وَالتَّحْطِيمِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهِيَ تَفْعَلُ مَا لَا تَفْعَلُهُ الْأَسْلِحَةُ الْمَعْرُوفَةُ, مِنْ إِثَارَةِ الرُّعْبِ وَالْقَلَقِ فِي صُفُوفِ الْمُجْتَمَعَاتِ, لَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَزَمَاتِ.
وَاعْلَمُوا كَذَلِكَ أَنَّ نَاقِلَ الشَّائِعَاتِ مُجْرِمٌ وَمُثِيرٌ لِلْاضْطِرَابَاتِ وَالْفَوْضَى, فِي دِينِهِ, وَوَطَنِهِ, وَأُمَّتِهِ.
وَمْنْ هُنَا نُدْرِكُ عِبَادَ اللهِ خُطُورَةَ حَرْبَ الشَّائِعَاتِ, مِمَّا يَتَطَلَّبُ ضَرُورَةَ التَّصَدِّي لَهَا، وَأَهَمِّيَّةَ مُكَافَحَتِهَا، حَتَّى لَا تَقْضِي عَلَى تَمَاسُكِ الْمُجْتَمَعِ, وَتَلَاحُمِ أَفْرَادِهِ.

*فَإِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ رَسَمَ الْمَنْهَجَ الصَّحِيحَ لِمُوَاجَهَةِ أَخْطَارِ الشَّائِعَاتِ، أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْخُطُوَاتِ: تَرْبِيَةُ النُّفُوسِ عَلَى التَّثَبُّتِ, وَطَلَبِ الْبَرَاهِينِ الْوَاقِعِيَّةِ فِي كُلِّ خَبَرٍ مُسْتَغْرَبٍ, يَمَسُّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً, وَوُلَاةِ الْأَمْرِ, وَالْعُلَمَاءِ خَاصَّةً؛ لِمَا لِنَشْرِ الشَّائِعَاتِ عَلَيْهِمْ مِنْ فَسَادٍ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ, وَبِهَذَا التَّثَبُّتِ نَسَدُّ الطَّرِيقَ أَمَامَ مُرَوِّجِي الشَّائِعَاتِ, وَمُثِيرِي الْفِتَنِ وَالْاضْطِرَابَاتِ, كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ جَمْعَاءَ مُطَالَبَةٌ بِالْقَضَاءِ عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ الْخَطِيرَةِ – كُلٌّ فِي مَجَالِهِ – فِي: الْبَيْتِ, وَالْمَسْجِدِ, وَالْأُسْرَةِ, وَالْمَدْرَسَةِ, وَوَسَائِلِ الْإِعْلَامِ, مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ شُرُورِ الشَّائِعَاتِ وَأَخْطَارِهَا، بَدْءًا بِتَوْعِيَةِ النَّاسِ, وَتَقْوِيَةِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ, وَتَذْكِيرِهِمْ بِعَدَمِ التَّسَاهُلِ فِي نَقْلِ الْكَلَامِ، لَاسِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْأَزَمَاتِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *