*فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَا مِنْ خَيْرٍ إِلَّا وَدَلَّ عَلَيْهِ، وَمَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا وَحَذَّرَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ مِمَّا حَذَّرَ مِنْهُ: كَثْرَةُ الْفِتَنِ الَّتِي تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ) قاَلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا) أَيْ تَطَلّعَ لَهَا, بِأَنْ يَتَصَدَّى وَيَتَعَرَّضَ لَهَا، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهَا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ، الْقَتْلُ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا, حَتَّى يَأْتِىَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِى الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ, وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ) فَقِيلَ :كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (الْهَرْجُ, الْقَاتِلُ, وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ تَدَاعَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، وَكَثُرَ فِيهِ الْقَتْلُ، حَتَّى لَرُبَّمَا لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَل، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِل، وَيَبْقَى السُّؤَالُ الْأَهَمُّ, أَلَا وَهُوَ: كَيْفَ النَّجَاةُ مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ؟ وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ, يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِي وَسَائِلَ ثَمَانٍ:
أَوَّلًا: حَمْدُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعَافِيَةِ, مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْفِتَنِ, وَالرَّزَايَا، وَالْحُرُوبِ الْمُدَمِّرَةِ.
ثَانِيًا: الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِهَذِهِ الْأَقْدَارِ، مَعَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ مَا يُرِيدُهُ اللهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ مَا أَصَابَ النَّاسَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُمْ، وَمَا أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُمْ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشْأْ لَمْ يَكُنْ (وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ, قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).
ثَالِثًا: الْإِكْثَارُ مِنْ دُعَاءِ اللهِ بِالْعِصْمَةِ مِنَ الْفَتَنِ مَا ظَهَرَ مَنْهَا وَمَا بَطَنَ, لَكَ وَلِإِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ.
رَابِعًا: مَدُّ يَدِ الْعَوْنِ, وَالنَّجْدَةِ, لِلْمَنْكُوبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ, كُلٌّ بِمَا يَقْدِرِ عَلَيْهِ, وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
خَامِسًا: لَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَحَرَصَ النَّاسِ عَلَى اتِّقَاءِ الْفِتَنِ، وَالْبُعْدِ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يَقَعُوا فِي شَرَكِهَا، بَلْ يَسْتَعِيذُونَ بِاللهِ مِنْهَا، فَفِي الْبُخَارِيِّ, عَنْ خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الْفِتَنِ:
الْحَـْربُ أَوَّلُ مَا تَكُــــــــونُ فَتِيَّـةً تَسْـعَى بِزِينَتِهَا لِكُلِّ جَهُـــــولِ
حَتَّى إِذَا اشْتَعَلَتْ, وَشَبَّ ضِرَامُهَا وَلَّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ حَلِيــلِ
شَمْطَـاءَ يُكْرَهُ لُونُهـَــــا, وَتَغَيَّرَتْ مَكْـرُوهَـةً لِلشَّـمِّ وَالتَّقْبِيـــــــلِ.
سَادِسًا: اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ, فِي خِضَمِّ الْفِتَنِ, أَلَّا يُصَابَ بِشَيءٍ مِنَ الْقُنُوطِ, وَالْيَأْسِ, مِمَّا يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَكَبَاتٍ, وَمَصَائِبَ، إِذْ قَدْ تَصِحُّ الْأَجْسَامُ بِالْأَمْرَاضِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمِحْنَةِ مِنْحَةٌ، وَمَعَ الْكَرْبِ فَرَجٌ (فَإِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ ٱلْعُسْرِ يُسْرًا) وَلَنْ يَغْلُبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وَ(إِنَّهُ لَا يَايْـئَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ).
سَابِعًا: أَنْ يُعْلَمَ عِلْمَ يَقِينٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ يَتَحَدَّثَ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي تُصِيبُ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مِنَ النَّوَازِلِ, وَالْحَوَادِثِ, وَالْمُسْتَجِدَّاتِ, إِلَّا الْعُلَمَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ, وَالْوَاجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ الصُّدُورُ عَنْ فَتَاوِيهِمْ؛ حَتَّى لَا يَقَعَ النَّاسُ فِي بَرَاثِنِ الْفِتَنِ.
*فَآخِرُ وَسِيلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوَسَائِل الْمُنْجِيَةِ مِنْ الْفِتَنِ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مِنْ أَدَبِ الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ, كَفَّ اللِّسَانِ, وَحَبْسَهُ, وَعَدَمَ الزَّجِّ بِهِ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَزَمَّهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الظَّنِّ, وَالتَّخَرُّصِ، أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللِّسَانِ فِي الْمَجَالِسِ، وَسَيَلَانَ الْأَقْلَامِ فِي الصُّحُفِ, وَالْمَوَاقِعِ, وَالْمُنْتَدَيَاتِ، دُونَ زِمَامٍ, وَلَا خِطَامٍ؛ لَيُوقِعُ الْعَبْدَ فِي أُتُونِ الْفِتَنِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ, فَفِي التِّرْمِذِيِّ, أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ, سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مَا النَّجَاةُ؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعَكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ) وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ حِينَمَا قَالَ: إِنَّ الْعَافِيَةَ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي السُّكُوتِ.
اترك تعليقاً