الصبر

*فَفِي الْبُخَارِيِّ, عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ, فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا, أَلَا تَدْعُو لَنَا, فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ, يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ, فَيُجْعَلُ فِيهَا, فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ, فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ, وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ, فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ, وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ, حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ, لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ, وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ خَلَقَ اللهُ الدُّنْيَا مَلِيئَةً بِالرَّزَايَا وَالْبَلَايَا، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَجَعَلَهُ مُعَرَّضًا لِأَنْوَاعِ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَيُبْتَلَى فِيهَا بِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، أَوْ بِهِمَا مَعًا (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وَأَكْثَرُ النَّاسِ فِيهَا بَلَاءً, الْأَنْبِيَاءُ, ثُمَّ الصَّالِحُونَ، الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ, يُبْتَلَى الْإِنْسَانُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ, اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكُمْ لِلْمُؤْمِنِ تَعْذِيبٌ, بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ, يُصْقَلُ بِهِ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، لِإِعْدَادِهِ لِمُوَاجَهَةِ الْخُطُوبِ بِصَبْرٍ وَثَبَاتٍ وَاحْتِسَابٍ، لِيَعْظُمَ بِذَلِكَ أَجْرُهُ، وَيَتَضَاعَفُ ثَوَابُهُ، وَيُخَلَّدُ ذِكْرُهُ الطَّيِّبُ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) وَكَذَلِكَ لِيُمَيِّزَ اللهُ تَعَالَى بِالْابْتِلَاءِ: الْآخِذِينَ لِدِينِ اللهِ بِقُوَّةٍ وَصِدْقٍ، ويَفْضَحَ بِهِ المُدَّعِينَ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: إِنَّ اللهَ مَا عَظَّمَ شَيْئًا فِي كِتَابِهِ كَمَا عَظَّمَ الصَّبْرَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ تِسْعِينَ مَوْضِعًا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَالْابْتِلَاءُ فِي الدُّنْيَا عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى، أَهَمُّهَا ابْتِلَاءُ الْمُسْلِمِ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ مِنْ: أَمْرٍ, وَنَهْيٍ, وَتَصْدِيقٍ, وَالْابْتِلَاءُ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ فِتَنِ الْمَنَاصِبِ, وَالشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ، وْالْابْتِلَاءُ بِانْتِفَاشِ الْبَاطِلِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ، وَقِلَّةِ النَّصِيرِ، وَالْابْتِلَاءُ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ, وَالْجُوعِ, وَنَقْصٍ فِي الْأَمْوَالِ, وَالْأنْفُسِ, وَالثَّمَرَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْعِبَادُ فِي الدُّنْيَا.
أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَسَلَّحُ بِهِ الْمُسْلِمُ لِمُجَابَهَةِ مَا قَدْ يُبْتَلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا: الصَّبْرَ الْجَمِيلَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الْعِبَادَ بِهِ, فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ: هُوَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ, وَكَفُّهَا عَنْ مَحَارِمِهِ, وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ, وَصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ, وَصَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ.
فإذا اشْتَدَّ بِكَ الْخَطْبُ، أَوْ نَزَلَتْ بِكَ نَازِلَةٌ فِي نَفْسٍ, أَوْ مَالٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَاصْبِرْ, مُحْتَسِبًا الْأَجْرَ, قَائِلًا مَا يَقُولُه الصَّابِرونُ: (إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

*فَإِنَّ الصَّبْرَ النَّافِعَ مَا كَانَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُوْلَى فَقَدْ مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ, فَقَالَ لَهَا: (اتَّقِيِ اللهَ, وَاصْبِرِي) فَقَالَتْ: (إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي) فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ, جَاءَتْ إِلَيْهِ تَعْتَذِرُ, فَقَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *