الوقف

*فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، اسْتَنْكَرُوا مَاءَهَا, وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ عَذْبٌ إِلَّا بِئْرٌ أَوْ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: رُومَةُ, وَكَانَ صَاحِبُهَا يَبِيعُ الْقِرْبَةَ مِنْهَا بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ, وَالْمُدُّ رُبْعُ الصَّاعِ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدُلِيِّ الْمُسْلِمِينَ, وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ) فَشَرَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ, وَوَسَّعَ حَفْرَهَا, وَجَعَلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ يَسْقُونَ مِنْهَا, وَيَشْرَبُونَ بِلَا ثَمَنٍ.
وَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمُرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ, فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ, لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ, فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا, وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا, وَلَا يُوهَبُ, وَلَا يُوَرَّثُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ, وَالْقُرْبَى, وَالرِّقَابِ, وَفِي سَبِيلِ اللهِ, وَالضَّعِيفِ, وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مَقْدِرَةٌ عَلَى الْوَقْفِ, إِلَّا وَقَّفَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: بَلَغَنِي أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَنْصَارِ تَصَدَّقُوا بِصَدَقَاتٍ مَوْقُوفَاتٍ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: الْوَقْفُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْإِنْسَانِ مَالًا مِنْ مَالِهِ, عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ, مِمَّا يُمْكِنُ الْانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ, وَالتَّصَدُّقِ بِمَنْفَعَتِهِ, وَتَسْبِيلِهَا عَلَى الدَّوَامِ, صَدَقَةً مُنَجَّزَةً فِي حَيَاتِهِ, وَقَبْلَ وَفَاتِهِ فَتُخْرَجُ مِنْ مُلْكِهِ وَهُوَ حَيٌّ، كَأَنْ يُوقِفَ أَرْضًا, أَوْ عَمَارَةً, وَيَتَصَدَّقُ بِمَنْفَعَتِهَا, وَأُجْرَتِهَا فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ حَالَ حَيَاتِهِ, فَإِذَا عَلَّقَ الصَّدَقَةَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ, أَيْ إِذَا مَاتَ صَارَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَصِيَّةً, وَلَيْسَتْ وَقْفًا.
وَالْوَقْفُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الصَّدَقَةِ, وَأَنْفَعِهَا, وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا، بَلْ هُوَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ الْمَعْنِيَّةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ, أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ, أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَنْحَصِرُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ, وَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ, بَلْ يَتَعَدَّى لِيَعُمَّ أَبْوَابًا كَثِيرَةً مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ: فَقَدْ يَكُونُ الْوَقْفُ فِي مَجَالِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ, كَإِيقَافِ الْمَدَارِسِ لِأَبْنَاءِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ وَغَيْرِهِمْ, أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، أَوْ عَلَى طِبَاعَةِ الْكُتُبِ النَّافِعَةِ, وَالْمَصَاحِفِ, وَالْبُحُوثِ الْعِلْمِيَّةِ, أَوْ فِي مَجَالِ تَحْفِيظِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ, أَوْ فِي مَجَالِ التَّحْجِيجِ وَالْإِعْمَارِ, أَوْ فِي مَجَالِ إِفْطَارِ الصَّائِمِينَ, أَوْ فِي مَجَالِ الرِّعَايَةِ الصِّحْيَّةِ لِلنَّاسِ مِنْ مَحَاوِيجَ وَغَيْرِهِمْ, وَذَلِكَ بِبِنَاءِ مُسْتَشْفَيَاتٍ, وَافْتِتَاحِ صَيْدَلِيَّاتٍ خَيْرِيَّةٍ وَقْفِيَّةٍ, أَوْ فِي مَجَالِ الرِّعَايَةِ الْاجْتِمَاعِيَّةِ, كَدُورِ الْأَيْتَامِ, وَدُورِ الْأَرَامِلِ, وَالْمُسِنِّينَ, وَالْعَجَزَةِ, وَنَحْوِهَا, أَوْ فِي مَجَالِ بِنَاءِ الْأُسَرِ, وَتَزْوِيجِ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ, أَوْ فِي مَجَالِ الْإِعْلَامِ الْهَادِفِ الْمُحَافِظِ, أَوْ فِي مَجَالِ الدَّعْوَةِ إِلى اللهِ تَعَالَى, وَكَفَالَةِ الدُّعَاةِ, وَتَوْفِيرِ الْوَسَائِلِ الدَّعَوِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ, وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْوَقْفُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ وْالْإِحْسَانِ.

*فَبَقِي الْإِشَارَةُ رَحِمَكُمُ اللهُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْاسْتِقْلَالَ بِوَقْفٍ مُسْتَقِلٍّ, فَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ حَسَبَ طَاقَتِهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي وَقْفٍ مُشْتَرَكٍ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا النَّارَ, وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) وَفِيهِمَا, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ, وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ, فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ, وَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا, كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *