*فَإِنَّ مِنْ مَشَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ, وَكِبَارِ التَّابِعِينَ الْإِمَامَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى, قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَقَدْ سَبَرْتُ السَّلَفَ كُلَّهُمْ, فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَخْرِجَ مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ حَتَّى صَارَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَبَيْنَ الْعَمَلِ حَتَّى صَارَ قُدْوَةً لِلْعَابِدِينَ، فَلَمْ أَرَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ: أَوَّلُهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَثَانِيهِمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَثَالِثُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ, وَمَا أُنْكِرُ عَلَى مَنْ رَبَّعَهُمْ: بِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ رَأْسًا فِي الْعِلْمِ, وَخَاصَّةً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِتَنِ, قَالَ يُوْنُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: كَانَ الْحَسَنُ وَاللهِ مِنْ رُؤُوسِ الْعُلَمَاءِ فِي الْفِتَنِ وَالدِّمَاءِ, وَزَادَ الذَّهَبِيُّ: وَالْفُرُوجِ, أَيْ الثُّغُورِ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ انْتَخِبَ لَكُمْ بَعْضًا مِنْ مَوَاقِفِهِ وَأَقْوَالِهِ, تُوضِحُ لَكُمْ مُعْتَقَدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْبَابِ, الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ وَلَمْ تَزَلْ, وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
قَالَ زُرَيْكُ بْنُ أَبِي زُرَيْكٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ عَرَفَهَا كُلُّ عَالِمٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَرَفَهَا كُلُّ جَاهِلٍ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلَيٍّ الرَّبْعِيُّ: لَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنُ الْأَشْعَثِ حِينَمَا خَرَجَ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ, انْطَلَقَ عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ غَالِبٍ فِي نَفَرٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَى الْحَسَنِ, فَقَالُوا: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَا تَقُولُ فِي قِتَالِ هَذَا الطَّاغِيَةَ الَّذِي سَفَكَ الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَخَذَ الْمَالَ الْحَرَامَ، وَتَرَكَ الصَّلَاةَ، وَفَعَلَ, وَفَعَلَ, فَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَى أَنْ لَا تُقَاتِلُوهُ، فَإِنَّهَا إِنْ تَكُنْ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ فَمَا أَنْتُمْ بِرَآدِّي عُقُوبَةَ اللهِ بِأَسْيَافِكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ بَلَاءً فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ: فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: نُطِيعُ هَذَا الْعِلْجَ، قَالَ: وَخَرَجُوا مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ, فَقُتِلُوا جَمِيعًا, قَالَ سُلَيْمَانُ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو الْمُعَذَّلِ, قَالَ: أَتَيْتُ عَلَى عُقْبَةِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ وَهُوَ صَرِيعٌ, فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُعَذَّلِ, لَا دُنْيًا, وَلَا آخِرَةَ.
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ عَذَابُ اللهِ فَلَا تَدْفَعُوا عَذَابَ اللهِ بِأَيْدِيكُمْ, وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْاسْتِكَانَةِ وَالتَّضَرُّعِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ يَزِيدٍ الْعَبْدِيُّ, قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ, وَأَتَاهُ رَهْطٌ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا بُيُوتَهُمْ، وَيُغْلِقُوا أَبْوَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ إِذَا ابْتُلُوا مِنْ قِبَلِ سُلْطَانِهِمْ صَبَرُوا, مَا لَبِثُوا أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى السَّيْفِ, فَيُوكَلُونَ إِلَيْهِ، وَوَاللهِ مَا جَاؤُوا بِيَوْمِ خَيْرٍ قَطُّ، ثُمَّ تَلَا: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).
وَقِيلَ لَهُ رَحِمَهُ اللهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ خَرَجَ خَارِجِيٌّ بِالْخُرَيـْبَةِ، فَقَالَ: الْمِسْكِينُ رَأَى مُنْكَرًا فَأَنْكَرَهُ، فَوَقَعَ فِيمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اعْلَمْ – عَافَاكَ اللهُ ـ أَنَّ جَوْرَ الْمُلُوكِ نِقْمَةٌ مِنْ نِقَمِ اللهِ تَعَالَى، وَنِقَمُ اللهِ لَا تُلَاقَى بِالسِّيُوفِ، وَإِنَّمَا تُتَّقَى, وَتُسْتَدْفَعُ بِالدُّعَاءِ, وَالتَّوْبَةِ, وَالْإِنَابَةِ, وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الذُّنُوبِ، إِنَّ نِقَمَ اللهِ مَتَى لُقِيَتْ بِالسَّيْفِ كَانَتْ أَقْطَعَ، وَلَقْدْ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ, أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّكُمْ كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا، أَحْدَثَ اللهُ فِي سُلْطَانِكُمْ عُقُوبَةً.
وَسَمِعَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ رَجُلًا يَدْعُو عَلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ إِنَّكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أُتِيتُمْ، إِنَّمَا نَخَافُ إِنْ عُزِلَ الْحَجَّاجُ, أَوْ مَاتَ: أَنْ تَلِيكُمُ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ, وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ إِلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ يَشْكُو إِلَيْهِ جَوْرَ الْعُمَّالِ أَيِ الْأُمَرَاءِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا أَخِي، وَصَلَنِي كِتَابُكَ، تَذْكُرُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ جَوْرِ الْعُمَّالِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَمِلَ بِالْمَعْصِيَةِ أَنْ يُنْكِرَ الْعُقُوبَةَ، وَمَا أَظُنُّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ إِلَّا مِنْ شُؤْمِ الذُّنُوبِ, وَالسَّلَامُ.
*فَقَالَ الْإِمَامُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ: جَوْرُ سِتِّينَ سَنَةً, خَيْرٌ مِنْ هَرْجِ سَاعَةٍ، فَلَا يَتَمَنَّى زَوَالَ السُّلْطَانِ إِلَّا جَاهِلٌ مَغْرُورٌ, أَوْ فَاسِقٌ يَتَمَنَّى كُلَّ مَحْذُورٍ، فَحَقِيقٌ عَلَى كُلِّ رَعِيَّةٍ أَنْ تَرْغَبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي إِصْلَاحِ السُّلْطَانِ، وَأْنْ تَبْذُلَ لَهُ نُصْحَهَا, وَتَخُصُّهُ بِصَالِحِ دُعَائِهَا، فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَفِي فَسَادِهِ فَسَادُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَكَانَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنِ اسْتَقَامَتْ لَكُمْ أُمُورُ السُّلْطَانِ فَأَكْثِرُوا حَمْدَ اللهِ تَعَالَى وَاشْكُرُوهُ، وَإِنْ جَاءَكُمْ مِنْهُ مَا تَكْرَهُونَ، وَجِّهُوهُ إِلَى مَا تَسْتَوْجِبُونَهُ مِنْهُ بِذُنُوبِكُمْ, وَتَسْتَحِقُّونَهُ بِآثَامِكُمْ، فَأَقِيمُوا عُذْرَ السُّلْطَانِ بِانْتِشَارِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ مَا يُكَابِدُهُ مِنْ ضَبْطِ جَوَانِبِ الْمَمْلَكَةِ, وَاسْتِئْلَافِ الْأَعْدَاءِ، وَرِضَاءِ الْأَوْلِيَاءِ، وَقِلَّةِ النَّاصِحِ, وَكَثْرَةِ الْمُدَلِّسِ, وَالْفَاضِحِ. ا.هـ. وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ, وَالْفِتَنُ, وَاضْطِرَابُ الْأُمُورِ.
اترك تعليقاً