*فَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ, قَالَ تَعَالَى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَلَا تَعْجَزْ) وَفِي مَأْثُورِ الْحِكَمِ: دَعِ الْقَلَقَ وَابْدَأِ الْحَيَاةَ.
وَبَيْنَ هَدْيِ الْقُرْآنِ, وَتَوْجِيهَاتِ السُّنَّةِ، وَاسْتِثْمَارِ مَأْثُورِ الْحِكْمَةِ، سَأَتَحَدَّثُ إِلَيْكُمْ عَنْ مَوْضُوعٍ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ، إِنَّهُ الْمَرَضُ الْوَافِدُ إِلَيْنَا: الْقَلَقُ وَالْاكْتِئَابُ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: الْقَلَقُ وَالْاكْتِئَابُ مَرَضٌ يُوصَفُ بِأَنَّهُ تَرَاكُمُ هُمُومٍ خَيَالِيَّةٍ لَا مُبَرِّرَ لَهَا، وَأَسْوَؤَهُ مَا قَطَعَ عَنِ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَأَفْضَى إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ, وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهُوَ ذُبُولٌ عَنِ الْحَيَاةِ، وَانْقِطَاعٌ عَنِ النَّاسِ لَا مُسَوِّغَ لَهُ، وَهُوَ ضَعْفٌ بَعْدَ الْقُوَّةِ، وَعُزْلَةٌ بَعْدَ الْاجْتِمَاعِ، يُثِيرُ فِي صَاحِبِهِ شُكُوكًا كَبِيرَةً، وَخَوْفًا وَقَلَقًا، وَبَغْضَاءَ وَأَنَانِيَّةً، وَيَبْلُغُ الْمَرَضُ ذِرْوَتَهُ، حِينَ يُصَابُ صَاحِبُهُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَرُبَّمَا اسْتَدْرَجَهُ الشَّيْطَانُ، فَزَيَّنَ لَهُ فِرَاقَ الْأَهْلِ وَالْخِلَّانِ، أَوْ تَرْكَ الْعَمَلِ, أَوِ الْانْقِطَاعَ عَنِ الدِّرَاسَةِ، فَيُحْرَمُ الْمُصَابُ حِينَهَا، مِنِ اسْتِثْمَارِ طَاقَاتِهِ، وَالْاسْتِفَادَةِ مِنْ قُدُرَاتِهِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ الْمُتَرَقِّبَ لِآخِرَ إِحْصَاءَاتِ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّةِ، لِيَجِدُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ سُكَّانِ الْعَالَمِ يُعَانُونَ مِنْ آفَةِ الْقَلَقِ وَالْاكْتِئَابِ, حَتَّى أَدَّى ذَلِكَ بِبَعْضِهِمْ إِلَى الْانْتِحَارِ, وَهَذِهِ الظَّاهِرَةُ فِي ازْدِيَادٍ مُخِيفٍ, وَمِنَ الْمُخِيفِ أَيْضًا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُصَابِينَ بِهَذِهِ الْآفَةِ لَا يَذْهَبُونَ إِلَى الْأَطِبَّاءِ، وَلَا يَكْشِفُونَ عَنْ حَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ تَزْدَادُ رُعُونَةً كُلَّمَا انْغَمَسَ الْمَرْءُ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ، وَابْتَعَدَ عَنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ الْحَقِيقِي.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: مِنْ أَبْرَزِ أَسْبَابِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ: خَوَاءُ الْقَلْبِ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى, قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا: خَوَاءُ الْقَلْبِ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، وَالْفَزَعُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَجْهُولِ، وَالشُّعُورُ بِالضَّعْفِ الشَّدِيدِ عَنْ حَمْلِ الْمَصَائِبِ الْوَاقِعَةِ، وَالشَّدَائِدِ الدَّاهِمَةِ، وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ يَعْلَمُ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا, وَالْإِسْلَامُ أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَالْحُكَمَاءُ يُوصُونَ بِالتَّجَلُّدِ لِلْمَصَائِبِ، وَالشَّجَاعَةِ فِي الْمَوَاقِفِ الْمُفَاجِئَةِ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا: الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ، وَالْابْتِعَادُ عَنْهُمْ, لَا سِيمَا وَقَدْ وُجِدَ مَا يُعِينُ عَلَيْهَا، مِنَ الْفَضَائِيَّاتِ, وَمَوَاقِعِ النِّتِّ, الَّتِي تَدْفَعُ الْإِنْسَانَ دَفْعًا كَبِيرًا إِلَى الْعُزْلَةِ عَنِ الْمُجْتَمَعِ, وَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ أَيْضًا: كَثْرَةُ الدُّيُونِ، مَعَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ, دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ!) قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي, وَدُيُونٌ, يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ, وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟) قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (قُلْ: إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ, وَالْبُخْلِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ, وَقَهْرِ الرِّجَالِ) قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ, فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي, وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. وَالْهَمُّ يَكُونُ لِمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ, وَالْحَزَنُ عَلَى مَا فَاتَ.
وَجِمَاعُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَتَمَثَّلُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْاسْتِقَامَةِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى, وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ مُسَبِّبِهَا سُبْحَانَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِشَيءٍ فَقَدْ وُكِلَ إِلَيْهِ، وَمَنْ وُكِلَ إِلَى غَيْرِ اللهِ فَقَدْ وُكِلَ إِلَى الضَّيَاعِ, فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَقَوُّوا إِيمَانَكُمْ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ, وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ حَقَّ التَّوَكُّلِ؛ وَذَلِكَ بِاعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ, مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ, وَأَحْسِنُوا ظَنَّكُمْ بِرَبِّكُمْ, وَاحْذَرُوا مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، وَالْمَعَاصِي, وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَهَمِّ النُّفُوسِ، وَكَثْرَةِ الدُّيُونِ؛ فَإِنَّهَا مُثْقِلَةٌ لِلْبَدَنِ، وَمُتْعِبَةٌ لِلْفِكْرِ وَالذِّهْنِ، وَمُشْغِلَةٌ عَنِ الْمُهِمِّ.
*فَإِنَّ مَنْ قَلَّ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، صَارَ مَرْتَعًا لِلْأَوْهَامِ وَالْأَحْزَانِ وَالْأَمْرَاضِ، وَالرِّضَى عَنِ اللهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَسْتَحْضِرَ الْعَبْدُ حِكْمَةَ اللهِ فِي كُلِّ مَا يُصِيبُهُ، فَإِنَّ أَفْعَالَ اللهِ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ, قَالَ تَعَالَى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الْعَبْدُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ, فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ.
وَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ, فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ, وَابْنُ أَمَتِكَ, نَاصِيَتِي بِيَدِكَ, مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ, عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ, أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ, سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ, أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ, أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ, أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ, أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي, وَنُورَ صَدْرِي, وَجِلَاءَ حُزْنِي, وَذَهَابَ هَمِّي, إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ, وَحُزْنَهُ, وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: (بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا).
اترك تعليقاً