وقفات مع آخر العام

*فَقَدِ انْقَضَتْ سَنَةٌ مِنْ أَعْمَارِنَا, وَطُوِيَتْ صَفْحَةٌ مِنْ أَيَّامِنَا بِمَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ, فَدُوِّنَتْ أَعْمَالُنَا فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا, وَسَنَتَذَكَّرُ حَتْمًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مَا عَمِلْنَاهُ مِنْ عَمَلٍ دَقَّ أَوْ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, قَالَ تَعَالَى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ هَذِهِ السَّنَةَ حِينَ تَتَصَرَّمُ مِنْ أَعْمَارِنَا لَتُذَكِّرُنَا بِحَدَثٍ جَلَلٍ حَدَثَ لِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يُذَكِّرُنَا بِهِ اسْمُ هَذِهِ الْأَعْوَامِ الْهِجْرِيَّةِ الَّتِي تَتَوَالَى عَلَيْنَا, الَّتِي سُمِّيَتْ بِهَذَا الْاسْمِ نِسْبَةً إِلَى الْهِجْرَةِ, نِسْبَةً إِلَى الْكِفَاحِ وَالتَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الدِّينِ, حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ, تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللهُ عَنْهُ جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَاعَةٍ مَا كَانَ يَأْتِينَا فِيهَا, فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي, وَاللهِ مَا قَدِمَ السَّاعَةَ إِلَّا فِي أَمْرٍ جَلَلٍ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُتَقَنِّعًا: (اخْرُجْ إِلَيَّ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّمَا أَهْلِي أَهْلُكَ, فَقَالَ: (إِنِّي أُمِرْتُ بِالْخُرُوجِ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ, فَقَالَ: (نَعَمْ) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحْسَنَ جَهَازٍ, ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ, يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ, فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَأَنَّهُ بَائِتٌ فِيهَا, فلا يسمع مِنْ قُرَيْشٍ أَمْرًا يَكْتَادَانِ بِهِ رَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ إِلَّا وَعَاهُ, ثُمَّ يُخْبِرُهُمَا إِذَا ذَهَبَ إِلَيْهِمَا حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ, وَكَانَ يَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمْ حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ لِيَطْمِسَ آثَارَهُمَا, فَيَبِيتَانِ يَشْرَبَانِ مِنَ اللَّبَنِ, ثُمَّ يَصِيحُ عَامِرُ بِغَنَمِهِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ, يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَدِ اسْتَأْجَرَا رَجُلًا مِنْ بَنِي الدَّيْلِ هَادِيًا خِرِّيتًا ـ وَالْخِرِّيتُ هُوَ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ ـ وَكَانَ عَلَى دِينِ الْكُفَّارِ فَأَمَّنَاهُ, وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا, وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ صُبْحِ ثَلَاثِ لَيَالٍ, وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ, فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ, وَهُوَ طَرِيقٌ لَا تَفْطِنُ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ, فَمَرُّوا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ عَلَى بَنِي مُدْلِجٍ وَفِيهِمْ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ, فَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ, فَقَالَ: فَكَأَنِّي بِمُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ قَدْ مَرُّوا بِكُمْ, فَأَمَرَ سُرَاقَةُ جَارِيَتَهُ بِأَنْ تُعِدَّ لَهُ فَرَسَهُ, ثُمَّ انْطَلَقَ فِي أَثَارِهِمَا, فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَهُ عَلَى مَدِّ الْبَصَرِ, عَثَرَتْ بِهِ فَرَسُهُ فَخَرَّ عَنْهَا, ثُمَّ قَامَ وَانْطَلَقَ فِي إِثْرِهِمَا, فَخَارَتْ فَرَسُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ, ثُمَّ طَلَبَ الْأَمَانَ مِنْهُمَا, وَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَعَدَّتْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ لِمَنْ يَأْتِي بِكُمْ, فَقَالَا لَهُ: غَمِّمْ عَلَيْنَا ـ أَيْ أَخْفِ عَنَّا ـ ثُمَّ سَارَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ, وَكَاَن الْأَنْصَارُ يَخْرُجُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ حَتَّى وَقْتَ الظَّهِيرَةِ, يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ عَادُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ, حَتَّى كَانَ يَوْمُ هِجْرَتِهِ فَرَآهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ, فَلَمْ يَتَمَالَكْ نَفْسَهُ, فَصَرَخَ فِي الْأَنْصَارِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ أَيْ حَظُّكُمْ, فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ, فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ, فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ, حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ, وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.

*فَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِآخِرِ الْعَامِ أَنَّهُ يَنْتَشِرُ بَيْنَ الْبَعْضِ مِنَّا أَنَّ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ تُطْوَى نِهَايَةَ الْعَامِ, وَهَذَا خَطَأٌ؛ وَالصَّوَابُ: أَنَّهَا تُطْوَى بِمَوْتِ الْإِنْسَانِ, وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ: لَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ نِهَايَةَ الْعَامِ الْهِجْرِيِّ, وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْأَعْمَالَ تُرْفَعُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ مِنْ كُلِّ عَامٍ, وَفِي كُلِّ يَوْمَيِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ, وَفِي صَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ الْاحْتِفَالُ بِمَا يُسَمَّى رَأْسَ السَّنَةِ الْهِجْرِيَّةِ, أَوْ ذِكْرَى الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ, فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ.
وَسُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ الْعُثَيْمِينُ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ حُكْمِ التَّهْنِئَةِ بِالسَّنَةِ الْهِجْرِيَّةِ, وَمَاذَا يُرَدُّ عَلَى الْمُهَنِّئِ؟
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللهُ: إِنْ هَنَّأَكَ أَحَدٌ فَرُدَّ عَلَيْهِ, وَلَا تَبْتَدِئُ أَحَدًا بِذَلِكَ, هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, فَلَوْ قَالَ لَكَ إِنْسَانٌ مَثَلًا: نُهَنِّئُكَ بِهَذَا الْعَامِ الْجَدِيدِ, فَقُلْ: هَنَّأَكَ اللهُ بِخَيْرٍ, وَجَعَلَهُ عَامَ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَلَكِنْ لَا تَبْتَدِئُ النَّاسَ أَنْتَ؛ لِأَنَّنِي لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُهَنِّئُونَ بِالْعَامِ الْجَدِيدِ, بِلِ اعْلَمُوا أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَتَّخِذُوا الْمُحَرَّمَ أَوَّلَ الْعَامِ الْجَدِيدِ إِلَّا فِي خِلَافَةِ عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.ا هـ.
ثُمَّ احْمَدُوا رَبَّكُمْ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَطَالَ بِأَعْمَارِكُمْ, وَاحْذَرُوا الْبِدَعَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا, وَالْزَمُوا سَبِيلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا أَوْصَاكُمْ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *