عاشوراء

*فَلَقَدْ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ كَثِيرًا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْجَبِ الْقَصَصِ، وَلِمَا حَوَتْهُ مِنْ فَوَائِدَ جَمَّةٍ, وَدُرُوسٍ عَدِيدَةٍ, تَتَكَرَّرُ بَيْنَ الْحَقِّ الْمُتَمَثِّلِ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَالْبَاطِلِ الَّذِي يُمَثِّلُهُ فِرْعَوْنَ؛ وَلَقَدْ كَانَتِ الْبِدَايَةُ أَنْ رَأَى فِرْعَوْنُ رُؤْيَا فَعُبِّرَتْ لَهُ بِأَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ سَيَكُونُ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ, فَشَرَعَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ غِلْمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ, عَلَّهُ يَدْفَعُ قَدَرَ اللهِ بِسَيْفِهِ وَأَنَّى لَهُ.
ثُمَّ لَمَّا تَطَاوَلَ الزَّمَنُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ تَحْتَ هَذَا الْبَلَاءِ، قِيلَ لَهُ: أَفْنَيْتَ النَّاسَ وَقَطَعْتَ النَّسْلَ، وَإِنَّهُمْ خَوَلُكَ وَعُمَّالُكَ, وَالْخَوَلُ اسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ, فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُقْتَلَ الْغِلْمَانُ عَامًا, وَيُسْتَحْيَوْا عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يُسْتَحْيَا فِيهَا الْغِلْمَانُ، وَوُلِدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الَّتِي فِيهَا يُقْتَلُونَ, فَأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أُمِّ مُوسَى: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وَقَدَّرَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ يُحْمَلُ الْوَلِيدُ الصَّغِيرُ إِلَى قَصْرِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا, فَأَلْقَى اللهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحَبَّةً مِنْهُ, حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ طَلَبَتْ أَنْ تَسْتَبْقِيَهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَهَا, أَوْ يَتَّخِذُوهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
وَتَرَعْرَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ عَقَدَ اللهُ تَعَالَى لَهُ سَبَبًا أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ ذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ قِبْطِيًّا رَدًّا عَلَى اعْتِدَائِهِ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَآمَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَأَهُ عَلَى قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَخَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَمَكَثَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، فَتَزَوَّجَ مِنِ ابْنَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الَّذِي دَعَاهُ لِأَخْذِ الْأَجْرِ عَلَى مَا سَقَى لِابْنَتَيْهِ, وَرَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَالتَّكْلِيمَ، وَبَعَثَهُ دَاعِيَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَتَمَرَّدَ فِرْعَوْنُ وَاسْتَكْبَرَ، وَادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَافْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ، فَآرَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ, فَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلَّا طُغْيَانًا وَكُفْرًا, وَجَمَعَ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَّا رَأَوُا الْحَقَّ وَعَرَفُوهُ لِمُنَازَلَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَتَجَبَّرَ الطَّاغِيَةُ وَأَمَرَ بِصَلْبِهِمْ بَعْدَ قَتْلِهِمْ, وَلَمْ تَزَلِ الْآيَاتُ تَأْتِي بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) فَآبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ, حَتَّى أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ فَتَبِعَهُمْ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ, فَكَانَتْ نِهَايَتُهُ أَنْ أَغْرَقَهُ اللهُ تَعَالَى وَجُنُودَهُ أَجْمَعِينَ، وَأَحَلَّ بِهِ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَتِلْكَ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي الظَّالِمِينَ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

*فَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ: (مَا هَذَا الَّذِي تَصُومُونَهُ؟) فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وأَغَرَقَ فِرعَونَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا, فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) وَفِي شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ، وَفِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْهُ عَلَى التَّحْدِيدِ؛ نَصَرَ اللهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ, وَأَغْرَقَ اللهُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَهِيَ نِعْمَةٌ تُوجِبُ الشُّكْرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ: (نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ, وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) وَقَالَ: (إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) وَلِذَا شُرِعَ صِيَامُهُ, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُم اللهُ أَنَّ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ فَقَطَ فَقَدَ أَصَابَ, وَأَحْسَنَ, وَحَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى صِيَامِ عَاشُورَاءَ بِتَكْفِيرِ السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهُ, وَالْأَفْضَلُ وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَصُومَ التَّاسِعَ مَعَ الْعَاشِرَ, أَوِ الْعَاشِرَ مَعَ الْحَادِيَ عَشَرَ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *