*فَقِيلَ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ: مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: غَرِيزَةُ عَقْلٍ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: أَدَبٌ حَسَنٌ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: أَخٌ صَالِحٌ يَسْتَشِيرُهُ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: صَمْتٌ طَوِيلٌ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: مَوْتٌ عَاجِلٌ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ بِالْعَقْلِ, وَمَيَّزَهُ بِهِ عَنِ الْحَيَوَانِ, وَجَعَلَ الْعَقْلَ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ, فَصَلُحَ بِهِ الْإِنْسَانُ أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يُدِيرُ شُئُونَهَا, وَيُدَبِّرُ أَمُورَهَا بِمَا شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِي كُتُبِهِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ, فَيَنْتَظِمُ الْعِمْرَانُ, وَتَطِيبُ بِذَلِكَ الْحَيَاةُ, وَالْعَقْلُ الَّذِي كَرَّمَ اللهُ بِهِ الْإِنْسَانَ هُوَ ذَلِكُمُ الْعَقْلُ الَّذِي تَجَرَّدَ عَنِ الْهَوَى، وَخَلُصَ مِنْ رِبْقَةِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، فَلَا هُوَ تَأَثَّرَ بِالْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ الْمُنْحَرِفَةِ الَّتِي تَدْفَعُهُ لِلْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَاتِ، وَلَا هُوَ عَطَّلَ قُوَاهُ بِاتِّبَاعٍ أَعْمَى قَادَهُ إِلَى الْمَهَالِكِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ, بَلْ سَارَ فِي خِضَمِّ الْحَيَاةِ مُسْتَنِيرًا بِنُورِ الْوَحْيَيْنِ يَسِيرُ مَعَهُمَا حَيْثُ سَارَا, وَيَنْزِلُ مَعَهُمَا حَيْثُ نَزَلَا.
أَلَا وَإِنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْعُصُورِ الْمُتَأَخِّرَةِ قَدْ كَبَا كَبَوَاتٍ خَطِيرَةً، وَأَقْحِمَ فِي أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ فِيهَا تَابِعًا لَا مَتْبُوعًا، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللهُ قَدْ اسْتَعْمَلُوا الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ فَاسِدًا مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، مِمَّا يَتَذَرَّعُ بِهِ مِنْ يُبْطِلُ بَعْضَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ يُحَرِّفُهَا بِحُجَّةِ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْعَقْلَ، أَلَا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا أَنْ يَتَعَارَضَ عَقْلٌ صَرِيحٌ مَعَ نَقْلٍ صَحِيحٍ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ, أَمَّا إِذَا حَدَثَ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَنَاقُضٌ؛ فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْخَلَلُ فِي الْعَقْلِ؛ فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ سَالِمًا مِنَ اللَّوْثَاتِ الْفِكْرِيَّةِ أَوِ الْعَقَدِيَّةِ أَوْ ضَعْفٍ فِي الْفَهْمِ وَالتَّصَوِّرِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَلَلُ فِي النَّقْلِ، بِمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِصَحِيحِ؛ كَأَنْ يَسْتَدِلَّ مُسْتَدِلٌّ مَثَلًا بِحَدِيثٍ مَكْذُوبٍ يُنَاقِضُ الْعَقْلَ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَنَحْنُ نَعِيشُ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي اخْتَلَطَتْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَفَاهِيمِ, فَإِنَّ جُمْلَةً مِنَ عُقُولِ أَبْنَائِنَا لَيُخْشَى أَنْ تَتَسَلَّلَ إِلَيْهَا بَعْضِ الشُّبُهَاتِ، ثُمَّ لَا يَجِدُ السَّاقِطُ مِنَ أَبْنَائِنَا فِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ نُورًا يَنْجُو بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ضَلَالِهِ؛ كَمَا يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ الصُّحُفِيِّينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْعَقْلَ حَكَمًا عَلَى عَدَدٍ لَيْسَ بِالْقَلِيلِ مِنَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ, وَكَمَا يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُقَابِلُونَ السُّنَنَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْآرَاءِ الْعَقْلِيَّةِ, فَجَعَلُوا عُقُولَهُمُ الْقَاصَرِةَ, وَأَفْهَامَهُمُ الْبَلِيدَةَ, حَكَمًا عَلَى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَلَقَدْ تَكَاثَرَتْ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمُ اللهُ فِي ذَمِّ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ, قَالَ أَبُو الزِّنَادِ رَحِمَهُ اللهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ, فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: وَالدَّاعُونَ إِلَى تَمْجِيدِ الْعَقْلِ، إِنَّمَا هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يَدْعُونَ إِلَى تَمْجِيدِ صَنَمٍ سَمَّوْهُ عَقْلًا، وَمَا كَانَ الْعَقْلُ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَإِلَّا لَمَا أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَكُلُّ مَنْ لَهُ مَسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ, يَعْلَمُ أَنَّ فَسَادَ الْعَالَمِ وَخَرَابَهُ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّأْيِ عَلَى الْوَحْيِ, وَالْهَوَى عَلَى الْعَقْلِ, وَمَا اسْتَحْكَمَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ الْفَاسِدَانِ فِي قَلْبٍ إِلَّا اسْتَحْكَمَ هَلَاكُهُ, وَفِي أُمَّةٍ إِلَّا فَسَدَ أَمْرُهَا أَتَمَّ فَسَادٍ, فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَمْ نُفِيَ بِهَذِهِ الْآرَاءِ مِنْ حَقٍّ, وَأُثْبِتَ بِهَا مِنْ بَاطِلٍ, وَأُمِيتَ بِهَا مِنْ هُدًى, وَأُحْيِيَ بِهَا مِنْ ضَلَالَةٍ, وَكَمْ هُدِمَ بِهَا مِنْ مَعْقِلِ الْإِيمَانِ, وَعُمَّرَ بِهَا مِنْ دِينِ الشَّيْطَانِ, وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّذِينَ لَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ, بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الْحُمُرِ, وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
*فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ حَدَّ لِلْعُقُولِ حُدُودًا يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَدَّاهَا، فَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) وَقَالَ تَعَالَى: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) وَقَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدىً وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ (أَيْ: لَاوِيًا عُنُقَهُ فِي تَكَبُّرٍ) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ).
اترك تعليقاً