[SIZE=6]*فَإِنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى: أَنْ جَعَلَ أُنَاسًا لَا يَصْلُحُ لَهُمْ إِلَّا الْفَقْرَ؛ فَيَرْحَمَهُمْ بِصَبْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ أُنَاسًا لَا يَصْلُحُ لَهْمْ إِلَّا الْغِنَى؛ فَيَرْحَمَهُمْ بِشُكْرِهِمْ لِلهِ تَعَالَى عَلَيْهِ (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أَلَا وَإِنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ الْبَالِغَةِ؛ أَنْ جَعَلَ لِأَبْوَابِ فَضْلِهِ وَرِزْقِهِ؛ مَفَاتِيحَ وَأَسْبَابًا شَرْعِيَّةً، بِهَا يَنَالُ الْعَبْدُ رِزْقَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَغِنَى النَّفْسِ وَالْمَعَاشِ, فَمِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ الشَّرْعِيَّةِ: تَقْوَى اللهِ تَعَالَى, وَالتَّقْوَى, هِيَ: اتِّقَاءُ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ, وَتَرْكِ النَّوَاهِي, قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
وَمِنْهَا: كَثْرَةُ الْاسْتِغْفَارِ؛ سَوَاءً مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ, أَوْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ التَّقْصِيرِ فِي الطَّاعَاتِ, ذَكَرَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْجُدُوبَةَ وَالْقَحْطَ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ! وَشَكَا آخَرُ إِلَيْهِ الْفَقْرَ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ! وَقَالَ لَهُ آخَرُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَلَدًا، فَإِنِّي عَقِيمٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ! وَشَكَا إِلَيْهِ رَابِعٌ جَفَافَ بُسْتَانِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ! فَقَالُوا لِلْحَسَنِ: أَتَاكَ رِجَالٌ يَشْكُونَ أَنْوَاعًا مِنَ الْحَاجَاتِ، فَأَمَرْتَهُمْ كُلُّهُمْ بِالْاسْتِغْفَارِ!! فَقَالَ: مَا قُلْتُ مِنْ عِنْدِي شِيئًا، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا).
وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ، فَإِنَّ اللهَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، حَيِيٌّ كَرِيمٌ, وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ الْهُدَى, وَالتُّقَى, وَالْعَفَافَ, وَالْغِنَى) وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كَمَا فِي الْمُسْنَدِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا, وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا, وَرِزْقًا طَيِّبًا) وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَسْأَلُونَ اللهَ تَعَالَى كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الْمِلْحَ لِطَعَامِهِمْ.
وَمِنْهَا: الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ, كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَمَعْنَى الْمُتَابَعَةُ بَيْنَهُمَا: أَيْ قَارِبُوا بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقِرَآنِ فِي الْحَجِّ, أَوْ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ, وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الطَّاعَاتِ سَبَبٌ لِلْغِنَى, كَمَا أَنَّ السَّيِّئَاتِ سَبَبٌ لِلْفَقْرِ؛ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ).
وَمِنْهَا: الْإِحْسَانُ إِلَى الضُّعَفَاءِ, فَفِي الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ).
وَمِنْهَا: التَّفَرُّغُ لِعِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ تَرْكُ السَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ, وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، بَلِ الْمَعْنَى وَاللهُ أَعْلَمُ: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ حَاضِرَ الْقَلْبِ أَثْنَاءَ الْعِبَادَةِ، خَاشِعًا خَاضِعًا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: الزَّوَاجُ, قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وَالْأَيَامَى: هُمُ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, وَفِي الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُتَزَوِّجِينَ بِالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ.
*فَمِنْ مَفَاتِيحِ الرِّزْقِ الشَّرْعِيَّةِ: الْقَنَاعَةُ وَغِنَى النَّفْسِ, فَإِنَّ بِهِمَا الْفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِي يُغْنِهِ اللهُ تَعَالَى؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ, وَرُزِقَ كَفَافًا, وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ) فَإِنَّ التَّعَاسَةَ وَالشَّقَاءَ بِفَوَاتِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَوْ أَحَدِهَا، فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا لَمْ يُهْدَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَهَذَا مَهْمَا كَانَتْ حَالُهُ، فَإِنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ, وَإِنْ هُدِيَ الْمَرْءُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ ابْتُلِيَ: إِمَّا بِفَقْرٍ يُنْسِي، أَوْ غِنًى يُطْغِي، فَفِي كِلَيْهِمَا ضَرَرٌ وَنَقْصٌ كَبِيرٌ, وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الرِّزْقُ الْكَافِي, وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى, فَهَذَا فَقِيرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ.
اترك تعليقاً