الرئيسية Archives for محمد المتروك

محمد المتروك

  • مناسبة عشاء نافع بن محيا آل عجي على شرف بعض رجالات عنزه

    مناسبة عشاء نافع بن محيا آل عجي على شرف بعض رجالات عنزه

    ملتقى آل عجي – اللجنة الإعلامية :

    أقام

    نافع بن محيا آل عجي

    مناسبة عشاء مساء الجمعة 27 – 12 – 1444 هـ
    في منزله بالحفير
    على شرف بعض رجالات عنزه
    يتقدمهم

    الشيخ سعود بن طلب العنزي
    الشيخ فايز بن معزي العنزي
    الشاعر سالم بن محمد العنزي
    الشاعر غنــام عوض الحبلاني
    يوسف الخميش
    كساب صالح العنزي
    فجر الادهم العنزي
    عبدالكريم دغيم العنزي
    خالد بن سعود العنزي
    خالد بن فايز العنزي
    صالح بن كساب العنزي
    سعود بن سالم الشميلي

    وقد أقيمت عدد من الشبات قبل وبعد مناسبة العشاء
    قبل العشاء

    – عبيد ضيف الله الدبلان
    – سليمان عبدالله العامر
    – مرضي متروك السرعوفي

    بعد العشاء

    – محمد حمدان المخلف وإخوانه

    وإليكم الصور:

    شبة سليمان عبدالله العامر
    شبة مرضي متروك السرعوفي
    شبة محمد حمدان المخلف واخوانه
    شبة عبيد ضيف الله الدبلان
    صور مناسبة عشاء نافع محيا آل عجي
  • الشاعر نافع بن محيا آل عجي يجري عملية جراحية تكللت بالنجاح

    الشاعر نافع بن محيا آل عجي يجري عملية جراحية تكللت بالنجاح

    أجرى

    الشاعر نافع بن محيا آل عجي

    عملية جراحيه في أوتار ألكتف الأيسر، تكللت بالنجاح ولله الحمد بالنجاح، وكان ذلك في مستشفى الأمير متعب بن عبدالعزيز بالجوف على يد الدكتور المميز

    صقر الرويلي

    يوم الأربعاء الماضي الموافق 26-7-1445هـ .

    الحمد لله على السلامة أبو فيصل وطهور إن شاء الله تعالى

  • الجمعية السعودية للمحافظة على التراث تكّرم الشاعر نافع محيا آل عجي

    الجمعية السعودية للمحافظة على التراث تكّرم الشاعر نافع محيا آل عجي

    حصل الشاعر

    نافع محيا آل عجي

    على شهادة شكر وتقدير من الجمعية السعودية للمحافظة على التراث، وذلك نظير مشاركته ومساهمته الكريمة ضمن ورشة العمل التعريفية لترشيح ملف الشعر النبطي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)ز

    جاء ذلك خلال ورشة العمل التي أقيمت بحضور كوكبة من الشعراء والشاعرات بمنطقة حائل ، بفندق الميلينيوم بجامعة حائل، بتاريخ15 – 6 – 1445 هـ الموافق 7 – 1 – 2024 م .

    وثمنت الجمعية جهود الشاعر “نافع آل عجي” القيمة في حفظ وتوثيق التراث والسعي لإحيائه ونقله للأجيال القادمة، متمنين له مزيدا من التقدم والنجاح والاستمرار ف هذا العطاء.

  • التشبه بالكفار

    التشبه بالكفار

    *فَلَقَدْ جَاءَ دِينُ الإسْلامِ آمِرًا أتْبَاعَهُ بِالبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ, وَتَأْكِيدًا لِهَذَا التَّمَيُّزِ لِلْمُسْلِمِينَ, فَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتْبَاعِ سَبِيلِ الكَافِرِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ).
    وَإنَّ مَفْهُومَ التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى صُوَرٍ مَحْدُودَةٍ, بَلْ هُنَاكَ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ لِلتَّشَبُّهِ المَذْمُومِ, وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ المُزْرِيَةِ التِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الإيْمَانِ اجْتِنَابُهَا, وَالتَّحْذِيرُ مِنْهَا:
    رَفْعُ لِوَاءِ القَوْمِيَاتِ المَقِيتَةِ, وَالوَطَنِيَّاتِ الضَّيِّقَةِ, وَالعَصَبِيَّاتِ العَشَائِرِيَّةِ, التِي جَعَلَتِ المُسْلِمِينَ شُعُوبًا, وَفَرَّقَتْهُمْ أُمَمًا.
    وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: تَبَرُّجُ النِّسَاءِ، وَهَذَا مِن أَفْتَكِ الأَمْرَاضِ الخُلُقِيَّةِ التِي تُبْتَلَى بِهَا الأُمَمُ, وَتَنْهَارُ بِسَبَبِهَا الحَضَارَاتُ، وَتَبَرُّجُ النِّسَاءِ سِمَةٌ لِلكُفَّارِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٌ السِّبَاقُ المَحْمُومُ الذِي تَتَسَابَقُهُ كَثِيرٌ مِن النِّسَاءِ لَهْثًا وَرَاءَ مَوْضَاتِ الغَرْبِ, وَرَكْضًا فِي كَشْفِ مَا أُمِرَتِ المَرْأَةُ بِسِتْرِهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ.
    وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: الاحْتِفَالُ وَالاحْتَفَاءُ بِأَعْيَادِ الكُفَّارِ, وَكَذَا الأَيَّامُ وَالأَسَابِيعُ التِي ابْتَدَعُوهَا، وَهِيَ مِمَّا تَسَاهَلَ فِيهِ بَعْضُ المُسْلِمِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ الاحْتِفَالُ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ, وَالْاحْتِفَالُ بِلَيْلَةِ الإسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَكَذَلِكَ الأَعْيَادُ الوَطَنِيَّةُ وَالقَوْمِيَّةُ, التِي تَزْدَادُ يَوْمًا بَعْدَ آخَرَ، وَكَذَا أَعْيَادُ المِيْلادِ, وَرَأسُ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ, بَلْ وَصَلَ الأَمْرُ إلَى أَنْ تَجِدَ البَعْضَ مِنَّا يَسْتَسْهِلُ تَهْنِئَةَ الكُفَّارِ بِأَعْيَادِهِمْ وَمُنَاسَبَاتِهِمْ، قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأمَّا التَّهْنِئَةُ بِشَعَائِرِ الكُفْرِ المُخْتَصَّةِ بِهِ فَحَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ, مِثْلَ أنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأَعْيَادِهِمْ وَصَوْمِهِمْ, فَيَقُولُ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ, أَوْ تَهْنَأُ بِهَذَا العِيدِ وَنَحْوِهِ, فَهَذَا إنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِن الكُفْرِ, فَهُوَ مِن المُحَرَّمَاتِ, وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أنْ يُهَنِّئَهُ بِسُجُودِهِ لِلصَّلِيبِ، بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا عِنْدَ اللهِ، وَأَشَدَّ مَقْتًا مِن التَّهْنِئَةِ بِشُرْبِ الخَمْرِ, وَقَتْلِ النَّفْسِ, وَارْتِكَابِ الفَرْجِ الحَرَامِ وَنَحْوِهِ) انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
    وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: تَقْلِيدُ الكُفَّارِ بِلِبَاسِهِمْ، وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ، فَأَلْوَانُهُ شَتَّى، وَنَمَاذِجُهُ هُنَا وَهُنَاكَ، وَإنَّكَ لَتَأْسَى حِينَمَا تَرَى عَدَدًا مِن شَبَابِ الأُمَّةِ الذِينَ هُمْ أَمَلُهَا بَعْدَ اللهِ يَتَشَبَّهُونَ بِالكُفَّارِ فِي لِبَاسِهِمْ، وَيَعُدُّونَهَا تَحَضُّرًا, وَأَنَاقَةً, وَمَدَنِيَّةً, وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ ثَوْبَينِ مُعَصْفَرَينِ, فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إنَّ هَذِهِ ثِيَابُ الكُفَّارِ فَلا تَلْبَسْهَا) وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بِأَذَرْبِيجَانَ: (إيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ, وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ).
    وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: تَعَلُّمُ لُغَةِ الكُفَّارِ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ لَا مِنْ أَجْلِ الدَّعْوَةِ إلَى دِينِ الإسْلامِ، وَالسَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللهُ كَانُوا يَكْرَهُونَ التَّكَلُّمَ بِغَيرِ العَرَبِيَّةِ أَشَدَّ الكَرَاهِيَةَ وَيَنْهَونَ عَنْهُ, إلَّا إذَا كَانَ فِي تَعَلُّمِهَا مَصْلَحَةٌ وَحَاجَةٌ فَهَذَا جَائِزٌ.
    وَمِن صُوَرِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ: حَلْقُ اللِّحَى وَإِعْفَاءُ الشَّوَارِبِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (جُزُّوا الشَّوَارِبَ, وَأَرْخُوا اللِّحَى, خَالِفُوا المَجُوسَ).
    ألَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أنَّ المُشَابَهَةَ فِي الظَّاهِرِ تُورِثُ نَوْعَ مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ وَمُوَالَاةٍ فِي البَاطِنِ, كَمَا أنَّ المَحَبَّةَ فِي البَاطِنِ تُورِثُ المُشَابَهَةَ فِي الظَّاهِرِ, وَهَذَا أَمْرٌ يَشْهَدُ بِهِ الحِسُّ وَالتَّجْرُبَةُ, حَتَّى إنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا كَانَا مِنْ بَلَدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اجْتَمَعَا فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ فَإنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَهُمَا شَيءٌ كَبِيرٌ مِن المَوَدَّةِ وَالمُوَالَاةِ وَالْائْتِلافِ, وَلَوْ كَانَا فِي بَلَدِهِمَا مُتَخَاصِمَينِ؛ وَذَلِكَ لِأنَّ الاشْتِرَاكَ فِي البَلَدِ نَوْعُ وَصْفٍ اخْتَصَا بِهِ عَنْ بَلَدِ الغُرْبَةِ, بَلْ لَوْ اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ أَوْ بَلَدٍ غَرِيبٍ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي اللِّبَاسِ, أوْ الشَّعْرِ, أوْ المَرْكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ, لَكَانَ بَيْنَهُمَا مِن الائْتِلَافِ أَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَ غَيْرِهِمَا, وَهَذَا كُلُّهُ بِمُوجِبُ الطِّبَاعِ وَمُقْتَضَاهَا, إلَّا أنْ يَمْنَعَ عَنْ ذَلِكَ دِينٌ أوْ غَرَضٌ خَاصٌّ, فَإذَا كَانَتِ المُشَابَهَةُ فِي أُمُورٍ دُنْيَوِيَّةٍ تُورِثُ المَحَبَّةَ وَالمُوَالَاةَ, فَكَيْفَ بِالمُشَابَهَةِ فِي أُمُورٍ دِينِيَّةٍ؟!!

    *فَإنَّ المُسْلِمِينَ هُمْ أَهْدَى الْخَلِيقَةِ طَرِيقًا, وَأَقْوَمُهُمْ سَبِيلًا, وَأَرْشَدُهُمْ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ سُلُوكًا، وَقَدْ أَقَامَهُمُ اللهُ تَعَالَى مَقَامَ الشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَمِ كُلِّهَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فَكَيْفَ يَتَنَاسَبُ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ المُسْلِمُونَ أَتْبَاعًا لِغَيْرِهِمْ من الأُمَمِ، يُقَلِّدُونَهُمْ فِي عَادَاتِهِمْ، وَيُحَاكُونَهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ؟!!
    وَلَابُدَّ قَبْلَ الخِتَامِ مِن التَّنْبِيِهِ إلِى أَنَّ المَنْهِيَّ عَنِ التَّشَبُّهِ فِيهِ مِن أَعْمَالِ وَأَخْلَاقِ الكَافِرِينَ هُوَ مَا يَكُونُ بِسَبَبِهِ انْدِثَارُ الدِّينِ وَالقَضَاءُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَفَسَادُ الأَخْلَاقِ, أَوْ يَتَعَارَضُ مَعَ أَحْكَامِ الإِسْلَامِ، أَوْ فِيهِ ذِلَّةٌ وَاسْتِكَانَةٌ وَاحْتِقَارٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَالْإسْلامُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ, كَالمَشَارِيِعِ التِي تَعُودُ بِالخَيْرِ, وَالفَائِدَةِ عَلَى الإسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ فِي المَجَالِ الصِّنَاعِيِّ وَالتُّكْنُولُوجِيِّ وَالْخِبْرَاتِ المِهَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

  • التسول

    التسول

    *فَجَاءَ غَلَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ؛ فَأَكَلَ الصِّدِّيقُ مِنْهُ لُقْمَةً, فَقَالَ الْغُلَامُ لِلصِّدِّيقِ: أَتَدْرِي مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا الطَّعَامُ؟ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَمَا كُنْتُ أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ وَلَكِنَّنِي خَدَعْتُ الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي الْيَوْمَ فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الذِي أَكَلْتَ, فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فِي فَمِهِ فَقَاءَ كُلَّ شَيءٍ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ تَخْرُجْ هَذِهِ اللُّقْمَةُ إِلَّا مَعَ نَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا حَمَلَتِ العُرُوقُ، وَخَالَطَ الْأَمْعَاءَ.
    ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:
    فَإِنَّ الْكَسْبَ الْحَلَالَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَعِزٌّ مُنِيفٌ، وَمِنْ مَأَثُورِ حِكَمِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ:
    يَا بُنَيَّ اسْتَغْنِ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ عَنِ الْفَقْرِ، فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ، إِلَّا أَصَابَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ: رِقَّةٌ فِي دِينِهِ، وَضَعْفٌ فِي عَقْلِهِ، وَذَهَابُ مُرُوءَتِهِ.
    أَلَا وِإنَّ فِي الْكَسْبِ الْحَلَالِ صَلَاحُ الْأَمْوَالِ, وَالْأَحْوَالِ, وَسَلَامَةُ الدِّينِ، وَصَوْنُ الْعِرْضِ, وَالْكَرَامَةُ, والشَّرَفُ, وَجَمَالُ الْوَجْهِ، وَمَقَامُ الْعِزِّ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا, وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ – أَيْ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ -، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ – أَيْ شَرَّهُ – دَخَلَ الْجَنَّةَ).
    مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: قَدِ ابْتُلِيَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَلْوَانٍ شَتَّى مِنْ طُرُقِ الْكَسْبِ الْمُحَرَّمِ, وَمِنْ هَذِهِ الطُّرُقٍ: سُؤَالِ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا, فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلاَلِىِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: (أَقِمْ, حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا) قَالَ: ثُمَّ قَالَ: (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا, ثُمَّ يُمْسِكُ, وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – أَيْ مَا يُقِيمُ مَعِيشَتَهُ -, وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ؛ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ, فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ, فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).
    وَلَقَدْ ذَكَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سُؤَالَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ لَا يَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ مِن ثَلَاثَةٍ أَشْخَاصٍ:
    الْأَوَّلُ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً؛ يَعْنِي الْتَزَمَ فِي ذَمَّتِهِ مَالًا مِنْ أَجْلِ الْإِصْلَاحِ بَيْنِ النَّاسِ، فَهَذَا الرَّجُلُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَقْضِي مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْمَالِ, ثُمَّ يُمْسِكُ وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا.
    وَالثَّانِي: رَجُلٌ أَصَابَتُهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ كَنَارٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ عَدُوٍّ, فَهَذَا الرَّجُلُ كَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ.
    وَالثَّالِثُ: رَجُلٌ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ بِدُونِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ, وَبِدُونِ جَائِحَةٍ مَعْلُومَةٍ, فَهَذَا الرُّجُلُ كَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ, لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ مِنْ قَوْمِهِ بِأَنَّ فُلَانًا أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ, فَيُعْطَى بِقَدْرِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْفَقْرِ.
    فَهَؤُلَاءِ الثَّلاثَةُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الذِينَ تَحِلُّ لَهُمُ الْمَسْأَلَةُ, ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ: (فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا).
    وَالسُّحْتُ هُوَ الْحَرَامُ, وَسُمِّيَ سُحْتًا لِأَنَّهُ يَسْحَتُ بَرَكَةَ الْمَالِ، وَرُبَّمَا يَسْحَتُ الْمَالَ كُلَّهُ, فَيُصِيبَهُ بِسَبَبِهِ آفَاتٌ تَسْحَتُ مَالَهُ مِنْ أَصْلِهِ.
    وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ).
    وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَظِيمٌ لِمَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ لِيُكَثِّرَ بِهَا مَالَهُ؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا, فَإِنِ اسْتَكْثَرَ؛ زَادَ الْجَمْرُ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَقَلَّ؛ قَلَّ الْجَمْرُ، وَإِنْ تَرَكَ سُؤَالَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ سَلِمَ مِنَ الْجَمْرِ.

    *فَفِي التِّرْمِذِي قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَنْ تَزُولَا قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: – وَذَكَرَ مِنْهَا – (وَعْنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ, وَفِيمَ أَنْفَقَهُ).
    وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ الرُّجُلَ إِذَا تَعَبَّدَ, قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ: انْظُرُوا مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ؟ فِإِنْ كَانَ مِنْ مَطْعَمِ سُوءٍ، قَالَ الشَّيْطَانُ: دَعُوهُ يُتْعِبُ نَفْسَهُ وَيَجْتَهِدُ, فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ.
    وَلَقَدْ كَانَتْ بَعْضُ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: اتْقِ اللهِ فِينَا وَلَا تُطْعِمُنَا إِلَّا مِنْ حَلَالٍ, فَإِنَّا نَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ, وَلَا نَصْبِرُ عَلَى النَّارِ.
    فَطُوبَى مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَنْ أَكَلَ طَيِّبًا, وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ, وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ.

  • التثبت في الأخبار

    التثبت في الأخبار

    *فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ – أَيْ الْمَوْتُ – وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِى, غُشِىَ عَلَيْهِ سَاعَةً, ثُمَّ أَفَاقَ, فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ, ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى) قَالَتْ: قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا. وَعَرَفْتُ الْحَدِيثَ الَّذِى كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ: (إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِىٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ, ثُمَّ يُخَيَّرُ) قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلَهُ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى).
    وَتَسَرَّبَ هَذَا النَّبَأُ الْفَادِحُ, وَالْحَدَثُ الْجَلَلُ, إِلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ, وَوَصَلَ هَذَا النَّبَأُ كَذَلِكَ سَرِيعًا إِلَى الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, وَكَانَ يَسْكُنُ بالسُّنْحِ وَهُوَ مَوْضِعٌ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ, فَجَاءَ عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ, وَدَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَالنَّاسُ قَدْ أَصَابَتْهُمْ دَهْشَةٌ عَظِيمَةٌ, فَمِنْهُمُ الْمُصَدِّقُ, وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ, وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَائِمٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ, وَهُوَ يَقُولُ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ, وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْتُلَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ.
    ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ حُجْرَةَ عَائِشَةَ, وَكَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَقَبَّلَهُ, وَقَالَ: طِبْتَ حَيًّا وَمَيْتًا يَا رَسُولَ اللهِ.
    ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ, وَعُمَرُ يَكَلِّمُهُمْ, فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ. فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ, فَحَمِدَ اللهَ أًبُوُ بَكْرٍ, وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَأْقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ, وَتَرَكُوا عُمَرَ, فَكَانَ فِيمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا, فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ, فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ, ثُمَّ قَرَأَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) قَالَ رَاوِي الْحَدِيثِ: وَاللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآَيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ, فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ, فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ, حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ, وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ, حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا, وَعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ مَاتَ.
    وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ: مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ التَّأَكِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ التَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ حِينَ وُصُولِهَا إِلَيْنَا, مِنْ أَيِّ شَخْصٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ, فَإِنَّ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا وَصَلَهُ خَبَرُ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, لَمْ يَتَسَرَّعْ, وَيَخُوضَ فِي هَذَا الْأَمْرِ؛ حَثًّا وَتَوْجِيهًا لِلنَّاسِ؛ حَتَّى تَأَكَّدَ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْخَبَرِ, بِأَنْ ذَهَبَ, وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَتَأَكَّدَ بِنَفْسِهِ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَحَدَّثَهُمْ.

    *فَمَا أَحْوَجَنَا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الذِي اخْتَلَطَتْ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمَفَاهِيمِ, وَمَعَ انْتِشَارِ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمَرْئِيَّةِ, وَالْمَسْمُوعَةِ, وَالْمَقْرُؤةِ بَيْنَ شَرَائِحِ الْمُجْتَمَعِ, وَمَعَ ضَعْفِ الدِّيَانَةِ, وَكَثْرَةِ الْمُرْجِفِينَ, وَالْمُنَافِقِينَ, وَالْكَذَّابِينَ, وَمَعَ كَوْنِ الْكَذِبَةَ تُكْذَبُ فِي الْمَشْرِقِ, فَيَثُورُ لَهَا غُبَارٌ فِي الْمَغْرِبِ, وَالْعَكْسُ, مِنْ اقْتِفَاءِ خُطَى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي التَّثَبُّتِ مِنَ الْأَخْبَارِ التِي تَرِدُ إِلَيْنَا, وَخَاصَّةً الْأَخْبَارَ الْمُسِيئَةَ لِلْأَخَرِينَ؛ كِبَارًا كَانُوا أَوْ صِغَارًا, وَإِلَّا كَتَمْنَاهَا فَلَا نُحَدِّثُ بِهَا أَحَدًا, قَطْعًا لِدَابِرِ الشَّائِعَاتِ التِي تَنْخَرُ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ, مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ؛ فِإِنَّهُ بِهَذَا يَكُونُ قَدِ اسْتَكْثَرَ جِدًّا مِنَ الْكَذِبِ.

  • الإيمان بالقضاء والقدر 2

    الإيمان بالقضاء والقدر 2

    *فَإنَّ الإيمَانَ بِالقَدَرِ أَحَدُ أَرْكَانِ الإيمَانِ التِي لا يَتِمُّ الإيمَانُ لِعَبْدٍ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهَا، وَلَا يَتِمُّ الإيمَانُ بِالقَدَرِ حَتَّى يُؤْمِنَ العَبْدُ بِأَرْبَعَةِ مَرَاتِبَ لِلْقَدَرِ.
    الَمَرْتَبَةُ الْأَوْلَى مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: مَرْتَبَةُ العِلْمِ, بِأنَّ نَعْلَمَ وَنُوقِنَ وَنُؤمِنَ بِأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيءٍ، عَلِمَ بِمَا كَانَ, وَعَلِمَ بِمَا سَيَكُونُ, وَعَلِمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ سَيَكُونُ؛ فَهُو يَعْلَمُ السَّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ الجَهْرَ مِن القَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ، وَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّ حَرَكَةٍ فِي هَذَا الوُجُودِ, وَكُلَّ قَطْرَةٍ مِن المَطَرِ تَنْزِلُ, وَيَعْلَمُ مَتَى تَنْزِلُ، وَأَيْنَ تَنْزِلُ، وَكُلَّ خَاطِرَةٍ تَخْطُرُ عَلَى بَالِ أيْ مَخْلُوقٍ؛ فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُهَا قَبْلَ أنْ يُوجِدَ هَذَا الكَوْنَ.
    وَالَمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: هِيَ مَرْتَبَةُ الكِتَابَةِ, فَيَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نُؤْمِنَ بِأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَبَ مَا كَانَ, وَمَا سَيَكُونُ، قَالَ تَعَالَى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) وَقَالَ تَعَالَى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) وَهَذَا الكِتَابُ هُو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ وَهُوَ أُمُّ الكِتَابِ, الذِي كَتَبَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُ, فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ؛ فَكَتَبَ مَا هُو كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
    وَالَمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: هِيَ مَرْتَبَةُ المَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ، وَهِيَ: أنْ نُؤْمِنَ بِأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَهُ إِرَادَةٌ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، وَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَيُقَدِّرُ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ وَهُوَ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الذِي يُصَرِّفُهُمْ وَيُدَبِّرُهُمْ كَمَا يَشَاءُ، فَمَشِيئَتُهُ مُطْلَقَةٌ، وَأَمَّا العَبْدُ فَلَهُ مَشِيئَةٌ لَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) فَمَشِيئَةُ العَبْدِ وَإِرَادَتُهُ وَاخْتِيَارُهُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ أَبَدًا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).
    وَالَمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَرَاتِبِ القَدَرِ: هِيَ مَرْتَبَةُ الخَلْقِ، فَإذَا آمَنَّا بِعِلْمِ اللهِ، وَآمَنَّا بِكِتَابَتِهِ لِذَلِكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَآمَنَّا بِمَشِيئَتِهِ التِي لَا تُرَدُّ, فَيَجِبُ عَلَيْنَا أنْ نُؤْمِنَ بِالخَلْقِ؛ لِأَنَّ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ خَلْقُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى أَعْمَالُنَا نَحْنُ بَنِي آدَمَ فَهِيَ مَخْلُوقَةُ لِلهِ، وَحَتَّى مَا نَصْنَعَهُ وَمَا نَرْكَبَهُ وَنَفْعَلَهُ أوْ نَبْنِيَهُ وَنَهْدِمَهُ؛ لِأَنَّهَا تَقَعُ بِمَشِيئَتِنَا وَقُدْرَتِنَا اللَّتَيْنِ خَلَقَهُمَا اللهُ تَعَالَى فِينَا, كَمَا خَلَقَ فِينَا بَقِيَّةَ قُوَانَا الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ, قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) وَفِي الحَدِيثِ الذِي صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُ وَغَيْرُهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (اللهُ خَالِقُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ) فَمَهْمَا عَمِلَ الإِنْسَانُ وَإنْ بَنَى أوْ صَنَعَ أوْ عَمِلَ مِنْ طَاعَةٍ أوْ مَعْصِيَةٍ فَكُلُّ ذَلِكَ مِن خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالعَبْدُ فَاعِلٌ، يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الإِرَادِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الْاخْتِيَارِيَّةِ. وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (بَلِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ, فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ يُسِّرَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِن أَهْلِ الشَّقَاوَةِ يُسِّرَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) فَمَتَى عَلِمَ العَبْدُ أنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الجَنَّةِ فَهُوَ مُيَسَّرٌ لِعَمِلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَجْتَهِدُ وَيَحْرِصُ عَلَى أنْ يَسْتَكْثِرَ مِن الخَيْرَاتِ؛ لِيَكُونَ مِن أَهْلِ السَّعَادَةِ.
    وَأمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَإنَّهُمْ يُعَارِضُونَ أَمْرَ اللهِ، وَدِينَهُ, بِمَشِيئَةِ اللهِ وَقَضَائِهِ, وَيَعْجَزُونَ عَنِ الطَّاعَةِ، بِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمَّا قَالَ: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللهِ, وَلَا تَعْجَزْ، فَإنْ أصَابَكَ أَمْرٌ, فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) وَفِي هَذا الحَدِيثِ أَرْبَعَةُ مَرَاتِبَ: فَالْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الحِرْصُ عَلَى مَا يَنْفَعُ. وَالمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الاسْتِعَانَةُ بِاللهِ. وَالمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: المُضِيُّ فِي الأَمْرِ، وَالاسْتِمْرَارُ فِيهِ، وَعَدَمُ الْعَجْزِ. وَهَذِهِ المَرَاتِبُ إِلَيْنَا. وَالمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا حَصَلَ خَلَافَ المَقْصُودِ; فَهَذِهِ لَيْسَتْ إلَيْنَا، وَإنَّمَا هِيَ بِقَدَرِ اللهِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ) أيْ: مِمَّا لَا تُحِبُّهُ وَلَا تُرِيدُهُ, فَفَوِّضِ الأَمْرَ إلَى اللهِ تَعَالَى وَارْضَ بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَكَ.

    *فَلَوْ أنَّ إنْسَانًا رَأَى رُؤْيًا صَالِحَةً فِي المَنَامِ بِأنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ ذُرِّيَةٌ كَثِيرَةٌ مِن الأَبْنَاءِ، وَاسْتَبْشَرَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا، فَإنَّ ذَلِكَ سَيَدْفَعُهُ إلَى أنْ يُبَادِرَ بِالزَّوَاجِ، وَأَلَّا يَتَّخِذَ أيَّ مَانِعٍ يَمْنَعُ الحَمْلَ مِن الأَسْبَابِ المَعْرُوفَةِ لِتَتَحَقَّقَ لَهُ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ. لَكِنْ لَوْ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَلَمْ يَأْخُذْ بِالأَسْبَابِ، فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إنْسَانًا عَاقِلًا؟!
    إِذًا القَدَرُ عِلْمٌ عَلِمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَكِتَابَةٌ كَتَبَهَا، وَشَاءَ ذَلِكَ وَلَا بُدَّ أنْ تَقَعَ مَشِيئَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ثُمَّ خَلَقَ ذَلِكَ فِينَا؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ أنَّهُ يَجِبُ أنْ نَتَسَابَقَ، وَنَحْرِصَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَنَجْتَهِدُ فِي الطَّرِيقِ المُوصِلِ إلَى مَرْضَاةِ اللهِ, وَإلَى جَنَّةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكَيْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ المُيَسَّرُونَ لَهَا، كَمَا أنَّ أَهْلَ الشَّقَاوَةِ مُيَسَّرُونَ لَهَا، أَجَارَنَا اللهُ وَإيَّاكُمْ مِن الشَّقَاوَةِ وَأَهْلِهَا.

  • الإيمان بالقضاء والقدر 1

    الإيمان بالقضاء والقدر 1

    *فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْا, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : (كُلُّ شَيءٍ بَقَدَرٍ، حَتَّى العَجْزُ وَالكَيْسُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
    وَهَذَا الحَدِيثُ مُتَضَمِّنٌ لِأصْلٍ عَظِيمٍ مِن أُصُولِ الإيمَانِ السِّتَّةِ، وُهُو الإيمَانُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، عَامِّهِ وَخَاصِّهِ، سَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ.
    وَالإيمَانُ بِالقَدَرِ يَكُونُ بِأنْ يَعْتَرِفَ العَبْدُ بِأنَّ عِلْمَ اللهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيءٍ، وَأَنَّهُ عَلِمَ أَعْمَالَ العِبَادِ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أُمُورِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى يُنَفِّذُ هَذِهِ الأَقْدَارَ فِي أَوْقَاتِهَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ الشَّامِلَتَانِ لِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ, وَأنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَمَعَ خَلْقِهِ لِلْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، فَقَدْ أَعْطَاهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً تَقَعُ بِهَا أَفْعَالُهُم بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ، لَمْ يُجْبِرْهُمْ اللهُ عَلَيْهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ هُو الذِي خَلَقَ قُدْرَتَهُمْ وَمَشِيئَتَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فَأفْعَالُ العِبَادِ وَأقْوَالُهُمْ تَقَعُ بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِم اللَّتِينِ خَلَقَهُمَا اللهُ فِي عِبَادِهِ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ قُوَاهُمُ الظَّاهِرَةُ وَالبَاطِنَةُ, وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَسَّرَ كُلًّا لِمَا خُلِقَ لَهُ, فَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ وَقَصْدَهُ لِرَبِّهِ: حَبَّبَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الإيمَانُ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إليهِ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِن الرَّاشِدِينَ، فَتَمَّتْ عَلَيهِ نِعَمُ اللهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ.
    وَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ وَقَصْدَهُ لِغَيْرِ اللهِ، لَمْ يُيَسْرِهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمُورِ، بَلْ وَلَّاهُ مَا تَوَلَّى، وَخَذَلَهُ، وَوَكَلَهُ إلَى نَفْسِهِ، فَضَلَّ العَبْدُ وَغَوَى، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ حُجَّةٌ، فَإنَّ اللهَ أَعْطَاهُ جَمِيعَ الأَسْبَابِ التِي يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الهِدَايَةِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ عَلَى الهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
    وَهَذَا القَدَرُ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ يَأتِي عَلَى جَمِيعِ أحْوَالِ العَبْدِ, وَأَفْعَالِهِ, وَصِفَاتِهِ، حَتَّى العَجْزُ وَالكَيْسُ. وَهُمَا الوَصْفَانِ المُتَضَادَّانِ الذِي يَنَالُ العَبْدُ بِالعَجْزِ: الخَيْبَةَ وَالخُسْرَانَ، وَيَنَالُ بِالكَيْسِ السَّعَادَةَ وَالرِّضْوَانَ.
    وَالمُرَادُ بِالعَجْزِ هُنَا: العَجْزُ الذِي يُلَامُ عَلِيهِ العَبْدُ، وَهُو عَدَمُ الإرَادَةُ، وُهُو الكَسَلُ، لَا العَجْزُ الذِي هُو عَدَمُ القُدْرَةِ. وَالمُرَادُ بِالكَيْس: الجِدُّ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ, وَهَذَا هُو مَعْنَى الحَدِيثِ الآخَرِ (اعْمَلُوا; فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ).
    وَالكَيِّسُ وَالعَاجِزُ هُمَا المَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ : (الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفْسَهُ, وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ: مَن أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِي).
    *فَإنَّ المُؤمِنَ بِالقَدَرِ حَقًا هُو الذِي أيْقَنَ أنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَمُدَبِّرُهُ، وَأَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِن صَغِيرٍ, وَلَا كَبِيرٍ, وَلَا حَرَكَةٍ, وَلَا سُكُونٍ, إلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ وَخَلْقِهِ، فَمَا كَتَبَ اللهُ عَلَى الإِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا لَمْ يُكْتَبْ عَلِيهِ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
    وَمَنْ كَانَ بِمِثْلِ هَذَا اليَقِينِ فَإنَّهُ وَلَابُدَّ سَيَجْنِي ثَمَرَاتِ الإيْمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ مِنْ: حُصُولِ الإخْلاصِ, وَالسَّلامَةِ مِن الشَّرْكِ, وَالعُجْبِ, وَالحَسَدِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ, وَتَحْصِيلِ الشَّجَاعَةِ وَالإقْدَامِ, وَالكَرَمِ وَالإنْفَاقِ، وَخَوْفِهِ مِن اللهِ, وَالحَذَرِ مِن سُوءِ الخَاتِمَةِ، وَيَنَالُهُ سُكُونُ القَلْبِ وَرَاحَةُ البَالِ والصَّبْرُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ, إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن ثَمَرَاتِ الإيْمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ.

  • أصحاب الكهف

    أصحاب الكهف

    *فإنَّ أحْسَنَ القَصَصِ هي قَصَصُ القُرْآنِ لِمَا فِيهَا مِن العِظَاتِ, وَالعِبَرِ, التي تَنْفَعُ مَنْ تَدَبَّرَهَا وَتَأَمَّلَهَا عَقِيدَةً, وَعِبَادَةً, وَسُلُوكًا (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) وَمِنْ أَعْجَبِ قِصَصِ القُرْآنِ: قِصَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ التي ذَكَرَهَا اللهُ فِى سُورَةِ الكَهْفِ, وَهِي السُّورَةُ التى رَغَّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِى قِرَاءَتِهَا, وَحِفْظِ بَعْضِ آيَاتِهَا, فَفِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِن الدَّجَّالِ) وَعِنْدَ البَيْهَقِيِّ والحَاكِمِ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ) فَهِيَ نُورٌ, وَضِيَاءٌ لِقَارِئِهَا مِن ظُلُمَاتِ الفِتَنِ، وَعِصْمَةٌ مِن فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ. وَمُلَخَّصُ قِصَّةِ أصْحَابِ الكَهْفِ: أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَوَحَّدُوهُ فِي العِبَادَةِ وَكَانَ قَوْمُهُمْ مُشْرِكِينَ فَاعْتَزَلُوهُمْ إلَى كَهْفٍ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ فَنَامُوا ثَلاثَ مَائةِ سَنَةٍ وَتِسْعَ سَنَوَاتٍ؛ ثُمَّ بَعَثَهُمُ اللهُ مِن نَوْمِهِمْ فَحَفِظَ اللهُ لَهُمْ دِينَهُمْ وَوَقَاهُمْ الفِتَنَ وَعَصَمَهُمْ مِنْهَا وَنَالَهُمْ شَئٌّ كَبِيرٌ مِن العِزِّ وَالشَّرَفِ بَعْدَ أنْ تَبَدَّلَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، جَزَاءَ صَبْرِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ.
    وَيُسْتَفَادُ مِن قِصَّتِهِمْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ, وَمِنْهَا:
    أنَّ قِصَّتَهُمْ مَعَ عَجِيبِ شَأَنِهَا فَإنَّهَا لَيْسَتْ بِأَعْجَبَ آيَاتِ اللهِ، بَلْ أعْجَبُ مِنْهَا خَلْقُ الأَرْضِ, وَمَا خَلَقَ اللهُ فِيهَا مِن أَنْوَاعِ الزِّيْنَةِ، ثُمَّ يَفْنَى ذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ, ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ الخَلَائِقَ لِيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا * أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا) أيْ: وَإنْ كَانَتْ قِصَّتَهُمْ عَجِيبَةً إلَّا أنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْجَبُ وَأَعْظَمُ مِنْهَا.
    وَمِنْهَا: أنَّ هَؤلاءِ الفِتْيَةِ نَشَئُوا فِي بِيئَةٍ كَافِرَةٍ باللهِ, وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى تَدَارَكَهُمْ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ فَهَدَاهُمْ إلَى الإِيْمَانِ وَالتَّوحِيدِ، وَعَلَى العَاقِلِ أنْ يَكُونَ رَائِدُهُ الحَقَّ, لَا التَّعَصُّبُ لِمَا عَلَيْهِ الآبَاءُ والأَسْلَافُ, فَحَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ فَالوَاجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَلْتَزِمَ بِهِ.
    وَمِنْهَا: أنَّ هَؤُلاءِ الفِتْيَةَ مَا طَالَبُوا بِحُكْمٍ وَلَا نَافَسُوا عَلَى مُلْكٍ، وَلَكِنْ دَعَوْا إلَى إفْرَادِ اللهِ بِالعِبَادَةِ؛ وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ دَاعِيَةٍ أنْ يَسْلُكَ فِي دَعْوَتِهِ إلَى اللهِ مَسْلَكَ النَّبِيِّينَ وَأتْبَاعِهِمْ مِن العِنَايَةِ بِالتَّوْحِيدِ, وَالدَّعْوَةِ إلِيهِ, وَالتَّحْذِيرِ مِمَّا يُضَادُهُ.
    وَمِنْهَا: فَضْلُ الدُّعَاءِ مَعَ بَذْلِ السَّبَبِ؛ فَهُمْ لَجَؤُوا إلَى الكَهْفِ, وَابْتَهَلُوا إلَى اللهِ بِدُعَاءٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) فَآوَاهُمْ اللهُ وَسَلَّمَهُمْ وَحَفِظَهُمْ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ، وَجَعَلَ قِصَّتَهُمْ زِيَادَةَ بَصِيرَةٍ, وَيَقِينٍ لِلْمُؤْمِنِينَ.
    وَمِنْهَا: أنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) وَهَذِهِ هِيْ عَادَةُ اللهِ فِيْمَنْ تَحَمَّلَ المَشَاقَّ مِن أَجْلِهِ, أنْ يَجْعَلَ لَهُ العَاقِبَةَ الحَمِيدَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
    وَمِنْهَا: أنَّهُ حِينَ خَشِيَ أْولَئِكَ الفِتْيَةُ مِن أذَى قَوْمِهِمْ, رَأَوْا أنْ يَفِرُّوا بِدِينِهِمْ, وَبِأَنْفُسِهِمْ فِي مَكَانٍ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ فِيهِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ؛ وَالعُزْلَةُ مَطْلُوبَةٌ حِينَ لا يَكُونُ لِمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَدَعْوَتَهُمْ جَدْوًى وَلَا أَثَرَ، أوْ كَانَ المَرْءُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِن البَلَاءِ وَالفِتْنَةِ.
    وَإذَا كَانَتْ عُزْلَةَ أَوْلئكَ الفِتْيَةِ بِحَقٍّ, فَإنَّنَا نَجِدُ اليَوْمَ مِن شَبَابِنَا مَنْ يَعْتَزِلُ أُسْرَتَهُ وَمُجْتَمَعَهُ بِبَاطِلٍ, تَأَثُّرًا بِبَعْضِ المَنَاهِجِ المُنْحَرِفَةِ، وَلِهَذَا نَجِدُ كَثِيرًا مِن الآبَاءِ لا يَعْلَمُ عَن أبْنَائِهِ شَيْئًا, ثُمَّ لَا يَسْمَعُ بِهِمْ إلا فِي بِلَادٍ تَعُجُّ بِالفِتَنِ وَالفَوْضَى، أوْ ضَحَايَا أَعْمَالٍ تَخْرِيِبِيَّةٍ يَكُونُونَ هُمْ وَقُودُهَا وَحَطَبُهَا.
    وَمِمَّا يَلْفِتُ الانْتِبَاهَ: مَا كَانَ عَليهِ أَصْحَابُ الكَهْفِ مِن الحِلْمِ وَالتَّؤُدَةِ وَالْأَنَاةِ وَهَذَا مِن تَوْفِيقِ اللهِ لَهُمْ، فَإنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ وَاجَهُوا مُجْتَمَعًا مُشْرِكًا شِرْكًا أَكْبَرَ إِلَّا أنَّهُمْ أَدْرَكُوا ضَعْفَ قَوَّتِهِمْ, وَقِلَّةَ عَدَدِهِمْ, فَاعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ, وَكَفُّوا أيْدَيَهُمْ عَنْهُمْ.
    وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أنَّ كَثِيرًا مِن مَصَائِبِ العَالَمِ الإسْلَامِيِّ اليَوْمَ نَاتِجَةٌ عَن التَّهَوُّرِ, وَالطَّيْشِ, حَيْثُ يَتَحَرَّشُ الضُّعَفَاءُ بِالْأَقْوِيَاءِ، فَتَعُودُ العَاقِبَةُ وَخِيمَةً عَلَى الإسْلَامِ وَأهْلِهِ وَدِيَارِهِ؛ وَاللهُ المُسْتَعَانُ.

    *فَمِنْ فَوَائِدِ قِصَّةِ أصْحَابِ الكَهْفِ: أنَّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللهِ؛ صَدَقَ اللهُ مَعَهُ, وَأَحَاطَهُ بِلُطْفِهِ, وَهَيَّأَ لَهُ مِن الأَسْبَابِ مَا لَا يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ، فَقَدْ حَفِظَهُمُ اللهُ أَيْقَاظًا, وَنَائِمِينَ, وَحَفِظَهُمُ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِى أَبْدَانِهِمْ وَفِى أَمْوَالِهِمْ.
    وَمِنْهَا: فَضْلُ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ، فَإنَّ الكَلْبَ لَمَّا صَحِبَ أَوْلئكَ النَّفَرَ الصَّالِحِينَ نَالَهُ مِن بَرَكَاتِهِمْ, فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ النَّوْمُ مَعَهُمْ, وَبَقِيَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ، وَفِي الحَدِيثِ: (أنَّ الرَّجُلَ لَهُ حَاجَةٌ فَيَمُرُّ بِحَلَقَةِ ذِكْرٍ, فَيَجْلِسُ فِيهَا، فَيَغْفِرُ اللهُ لَهُ مَعَهُمْ) فَعَلَى المُسْلِمِ وَلَا سِيَّمَا الشَّابُّ فِي مُقْتَبَلِ عُمُرِهِ أنْ يُحْسِنَ اخْتِيَارَ الصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ. وَلْيَحْذَرْ الْمُسْلِمُ غَايَةَ الحَذَرِ مِنْ صُحْبَةِ الأَشْرَارِ, وَأَصْحَابَ الأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ, فَإنَّ صُحْبَتَهُمْ دَاءٌ عُضَالٌ يَضُرُّ فِي الحَالِ وَفِي المَآلِ، وَفِى الحَدِيثِ: (المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) وَفِي الصَّحِيحِينِ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

  • أشراط الساعة الكبرى

    أشراط الساعة الكبرى

    *فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ, حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ (أَيْ: تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ, وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ) فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا, فَقَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ, حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ, فَقَالَ: (غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ (وَيَقْصِدُ الرِّيَاءَ) إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ, وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ, وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ (أَيْ: شَدِيدُ جُعُودَةِ شَعْرِ الرَّأَسِ) عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ, فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ, إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ (أَيْ: طَرِيقًا بَيْنَهُمَا) فَعَاثَ يَمِينًا (أَيْ: أَفْسَدَ) وَعَاثَ شِمَالًا, يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا لَبْثُهُ فِى الْأَرْضِ؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ يَوْمًا, يَوْمٌ كَسَنَةٍ, وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ, وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ, وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: (لَا, اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: (كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ, فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ, فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ, وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ, فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ (أَيْ: مَاشِيَتُهُمْ) أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا (أَيْ: أَسْنِمَةً) وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا (أَيْ: لِكَثْرَةِ اللَّبَنِ) وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ (أَيْ: لِكَثْرَةِ امْتِلَائِهَا مِنَ الشَّبَعِ) ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ, فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ (أَيْ: مُجْدِبِينَ) لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ, وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ (أَيْ: الَّتِي لَا أُنَاسَ فِيهَا وَلَا بِنَاءَ) فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ, فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ (أَيْ: جَمَاعَةِ النَّحْلِ) ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ (أَيْ: يَجْعَلُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ مَسَافَةً بَعِيدَةً) ثُمَّ يَدْعُوهُ, فَيُقْبِلُ, وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ, فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ (وَهَذِهِ الْمَنَارَةُ مَوْجُودَةٌ الْيَوْمَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ) بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ (أَيْ: ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ) وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ, إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ (يَعْنِي مِنَ الْعَرَقِ) وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ (أَيْ: يَتَحَدَّرُ مِنْهُ الْعَرَقُ عَلَى هَيَّئَةِ اللُّؤْلُؤِ فِي صَفَائِهِ) فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ, وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ, ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ, فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ (أَيْ: لَا قُدْرَةَ وَلَا طَاقَةَ) فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ (أَيْ: اجْعَلْهُ لَهُمْ حِرْزًا) وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (أَيْ: مِنْ كُلِّ غَلِيظٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ يَخْرُجُونَ مُسْرِعِينَ) فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا, وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ, وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ, فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ (أَيْ: يَدْعُونَ اللهَ) فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ (وَالنَّغَفَةُ دُودٌ يَقْتُلُ الْبَهَائِمَ بِسُرْعَةٍ) فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى (أَيْ: قَتْلَى) كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ, ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ (أَيْ: دَسَمَهُمْ) وَنَتْنُهُمْ, فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ (أَيْ: النُّوقِ) فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ, ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ (أَيْ: لَا يَسْتُرُ مِنْهُ بَيْتُ حَاضِرَةٍ وَلَا بَادِيَةٍ) فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَقَةِ (أَيْ: الْمِرْآةِ) ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ, وَرُدِّي بَرَكَتَكِ, فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ (أَيْ: الْجَمَاعَةُ) مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا (أَيْ: قِشْرِهَا) وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ (أَيْ: اللَّبَنِ) حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ (أَيْ: اللَّبُونَ) لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ (أَيْ: الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ) وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ, وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً, فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ, فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ, وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ (أَيْ: يُجَامِعُونَ النِّسَاءَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا يَكْتَرِثُونَ لِذَلِكَ) فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ).

    *فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَجْمُوعُونَ بِصَعِيدٍ وَاحِدٍ, يَنْفُذُكُمُ الْبَصَرُ, وَيُسْمِعُكُمُ الدَّاعِي، أَلا وَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَالسَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.

  • آداب المرور

    آداب المرور

    *فَلَمْ يَتْرَكِ الشَّرْعُ الْحَنِيفُ مِنْ أُموُرِنَا شَارِدَةً وَلاَ وَارِدَةً إلاَّ وَكَانَ لَهُ فِيَها تَوْجِيهٌ وَإِرْشَادٌ، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي اللهُ عَنْهُ قَالَ: (لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ إِلاَّ ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا) رواهُ أحمدُ. وَمِنْ أِعْظَمِ مَا جَاءَتْ فِيهِ تَوْجِيَهاتُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: أَرْوَاحُ النَّاسِ وَدِمَاؤُهُمْ؛ فَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الإِسْلاَمِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ جَمِيعُ الْوَسَائِلِ التِي تَكْفُلُ سَلاَمَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، وَمِنْ أَكْثَرِ الْوَسَائِلِ الدُّنْيَوِيَّةِ انْتِشَارًا فِي حَيَاتِنَا: مَرْكَبَاتُنَا وَسَيَّاراتُنَا؛ فَهِيَ مِنْ أَلْصَقِ مَا يَكُونُ بِنَا فِي سَاعَاتِ أَيَّامِنَا وَلَيَالِينَا، وَهِيَ بِلاَ شَكٍّ مِنْ أعْظَمِ النِّعَمِ, فَسُبْحَانَ مَنْ سَخَّرَ لَنَا هَذِهِ الْمَرَاكِبَ وَأَوْزَعَنَا شُكْرَهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ).
    مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: إِنَّ الأَرْوَاحَ لَا تَهُونُ إِلَّا إِذَا هَانَتْ عَلَيْنَا نُصوُصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ! وَتَأَمَّلُوا – سَلَّمَكُمُ اللهُ وَعَافَاكُمْ – كَمْ مِنْ عَائِلَةٍ تَيَتَّمَ أَوْلاَدُهَا! أوْ فَقَدَتْ عَائِلَهَا! أَوْ أَصَابَهَا عَاهَاتٌ فِي أَفْرَادِهَا! فَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ سَمْعَهُ, أَوْ بَصَرَهُ, أَوْ يَدَيْهِ, أَوْ رِجْلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ شُلَّ عَنِ الْحَرَكَةِ تَمَامًا، وَلَوْ كُنَّا أُصِبْنَا بِهَذَا فِي معركةٍ مِن المَعَارِكِ الحَاسِمَةِ لَكَانَتْ فَاجِعَتُنَا عَظِيمَةً مُحْزِنَةً، وَلَعُدَّتْ هَزِيمَتُنَا نَكْرَاءَ مُخْزِيَةً، فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ الذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُنَا البَعْضَ بِهَذَا الْحَدِيدِ الذِي لاَ يَعْرِفُ رَحْمَةً وَلاَ شَفَقَةً؟!.
    مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: إِنّ نَظْرَةً خَاطِفَةً فِي كَثِيرٍ مِنْ شَوَارِعِنَا تَجْعَلُنَا أَمَامَ كَوْمٍ هَائِلٍ مُرِيعٍ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ الْمُرُورِيَّةِ؛ فَهَذَا مُتَهَوِّرٌ مِنْ شِدَّةِ سُرْعَتِهِ، وَذَلِكَ يَقُودُ سَيَّارَتَهُ مُعاكِساً السَّيْرَ، وَهَذَا يَقِفُ فِي غَيْرِ أَمَاكِنِ الْوُقُوفِ، وَهَؤُلاَءِ رِفْقَةٌ وَاقِفُونَ وَسَطَ طَرِيقِ الْماَرَّةِ يتحدثون! وَلَعَلَّكَ تَرَى فِي يَوْمِكَ وَلَيْلَتِكَ عَدَدًا مِمَّنْ يَقْطَعُ إِشَارَةَ الْمُرُورِ لاَ يَعْرِفُ لَهَا حُرْمَةً وَلاَ يُقِيمُ لَهَا وَزْنًا. فَاللهَ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَذُرِّيَّتِكَ وَأَهْلِكَ وَإِخْوَانِكَ وَأَحْبَابِكَ يَا سَائِقَ السَّيَّارَةِ؛ فَإِنَّ خَطَأً وَاحِدًا فِي الدُّنْيَا قَدْ يُكَلِّفُكَ وَغَيْرَكَ مَآسِيَ لاَ تَنْمَحِي جِرَاحَاتُها وَلاَ تَنْدَمِلُ آثَارُهَا، وَإِنَّ قَطْرَةَ دَمٍ وَاحِدَةً تَتَسَبَّبُ فِي إِرَاقَتِهَا مِنْ أَخِيكَ الذِي ظَلَمْتَهُ سَتُطِيلُ وُقُوفَكَ لِلْحسَابِ غَدًا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى.
    أَخِي قَائِدَ السَّيَّارَةِ: يَنْبَغِي عَلَيْكَ مُرَاعَاةُ مَا أَرْشَدَكَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَثْنَاءَ قِيَادَتِكَ لِسَيَّارَتِكَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تُسَمِّيَ اللهَ تعَالَى عِنْدَ رُكُوبِكَ وَتَحْمَدَهُ وَتُسَبِّحَهُ؛ فعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا؛ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ؛ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ؛ ثَلاثًا، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا؛ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَالَ: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ) ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ ثَلاثًا، اللَّهُ أَكْبَرُ؛ ثَلاثًا، سُبْحَانَكَ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ) ثُمَّ ضَحِكَ؛ فقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ؛ فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُكَ) رواهُ الترمذيُّ. وكان رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ, كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ, وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ, اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا, وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ) وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وَزَادَ فِيهِنَّ: (آيِبُونَ, تَائِبُونَ, عَابِدُونَ, لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

    *فَقَال تَعَالَى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا) وَإِنَّ عُمُومَ الأَمْرِ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يَقْتَضِي أَنْ لاَ نَدْفَعَ بِأَمْوَالِنَا التِي جَعَلَ اللهُ فِيهَا مَصَالِحَنَا الدِّينِيَّةَ والدُّنْيَوِيَّةَ لِلسُّفَهَاءِ، والسَّفِيهُ هُوَ الذِي لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ، وَلاَ شَكَّ – أَيُّهَا الفُضَلاَءُ – أنَّ السَّيَّارَاتِ مِنَ الأَمْوَالِ، وَدفْعُهُا لِلسُّفَهَاءِ مِنَ الصِّغَارِ أَوِ الْكِبَارِ فِيهِ مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لأَنَّ السَّفِيهَ سَوْفَ يُهْمِلُ تِلْكَ النِّعْمَةَ، بَلْ قَدْ يُسَبِّبُ لِغَيْرِهِ الْإِزْعَاجَ, وَالْمُضَايَقَاتِ, وَلَرُبَّمَا الكَوَارِثَ أَحْيَانًا؛ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُرَاقِبَ رَبَّهُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَيَقِيَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الضَّرَرِ؛ إِذْ لَا ضَرَرَ, وَلًا ضِرَارَ فِي الْإِسْلاَمِ.

  • أداء الأمانة والحذر من الرشوة

    أداء الأمانة والحذر من الرشوة

    *فَإِنَّ مِنْ مَكَارِمِ الْأخْلَاقِ, وَأَعْظَمِ الصِّفَاتِ, التِي دَعَا إِلَيْهَا الإسْلَامُ: حِفْظَ الْأمَانَةِ, وَأَدَاءَهَا إلَى أَصْحَابِهَا, فَقَالَ تَعَالَى: (إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (آَيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ, وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) وَبِهَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي عَلَاقَاتِهِ مَعَ الْكُفَّارِ, فَقَالَ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
    وَلَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَأْتِي يَوْمٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَمَانَةُ, فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا, وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ, ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ, وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ, ثُمَّ حَدَّثَنَا عَن رَفْعِ الْأَمَانَةِ, فَقَالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ, فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ, فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ) – وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ- إلَى أَنْ قَالَ: (فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ, فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ, حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِينًا, حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ, مَا أَظْرَفَهُ, مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا فِي قِلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
    وَالْأَمَانَةُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَجِيدَةِ, وَالصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ, التِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً فِيمَنْ يَتَوَلَّى أَيْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ, فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا مُخْلِصًا, يُقَدِّمُ المَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ الْفِئَوِيَّةِ, وَأَنْ تَتَحَقَّقَ فِيهِ صِفَةٌ أُخْرَى كَذَلِكَ وَهِيَ الْقُوةُ؛ بِأَنْ يَكُونَ كُفْئًا قَادِرًا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ, كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِ إِحْدَى ابْنَتَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِأَبِيهَا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأَجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
    مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَلَيْسَتِ الْأَمَانَةُ فِي مَعْنَاهَا مَقْصُورَةً عَلَى حِفْظِ الْأَشْيَاءِ الْمَادِّيَّةِ فَحَسْبُ, بَلْ هِيَ أَشْمَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعَمُّ؛ إِذْ هِيَ تَشْمَلُ الْأُمُورَ الحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةِ, فَالْعَدْلُ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ, وَالْأَوْلَادِ, وَالزَّوْجَةِ, وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَمَانَةِ, وَقَوْلُ كَلَمَةِ الْحَقِّ مِنَ الْأَمَانَةِ, وَالشَّهَادَةُ, وَالتَّزْكِيَةُ لِلنَّاسِ, مِنَ الْأَمَانَةِ, وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ, وَحُرُمَاتِهِمْ, وَأَخْلَاقِهِمْ مِنَ الْأَمَانَةِ, وَبِالْجُمْلَةِ: فَحِفْظُ الدِّينِ بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ وَزَوَاجِرَ, هُوَ مِنَ الْأَمَانَةِ التِي اسْتَرْعَانَا اللهُ تَعَالَى إِيْاهَا, وَعَلَى هَذَا فُسِّرَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: (إِنَّا عَرَضْنا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) وَالْأَمَانَةُ هُنَا: رَاجِعَةٌ إِلَى جَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ, التي مَنْ قَامَ بِهَا أُثِيبَ, وَمَنْ تَرَكَهَا عُوقِبَ, فَقَبِلَهَا الْإنْسَانُ عَلَى ضَعْفِهِ, وَجَهْلِهِ, وَظُلْمِهِ.

    *فَاتَّقُوا اللهَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاعْلَمُوا أنَّ مِنْ أَخْطَرِ الْخَطَرِ, انْتِشَارَ الرِّشْوَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ تَضْيِيعِ الْأَمَانَةِ التِي أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِحِفْظِهَا, فَهِيَ سَبَبٌ لِأَخْذِ حُقُوقِ الْآخَرِينَ, وَأَدَاةٌ لِشِرَاءِ ذِمَمِ النَّاسِ, وَطَرِيقٌ فَجٌّ لِهَدْمِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ, فَالذِي يَشْتَرِي ضَمَائِرَ النَّاسِ, يَبِيعُ ضَمِيرَهُ, وَالذِي يُغْرِي النَّاسَ, بِمَالٍ, أَوْ جَاهٍ, وَنَحْوِهِمَا, يَبِيعُ وَطَنَهُ وَمُجْتَمَعَهُ.
    وَمِنْ أَجْلِ هَذَا, فَقَدْ كَانَتِ الرِّشْوَةُ فِي الْإِسْلَامِ مِن كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ, وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قَانُونِ الْبَشَرِ, وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ النَّبَوِيُّ فِي هَذَا وَاضِحًا سَاطِعًا, لَا يَقْبَلُ تَحْرِيفًا وَلَا تَأْوِيلًا, فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ ثَوْبَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الرَّاشِيَ, وَالْمُرْتَشِيَ, وَالرَّائِشَ. يَعْنِيْ: الذِي يَمْشِيْ بَيْنَهُمَا.
    أَلَا وَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ اسْمِهَا لَا يُغَيِّرُ مِنَ الْحَقِيقَةِ شَيْئًا؛ كَتَسْمِيَةِ الرَّشُوَةِ بِالْهَدِيَّةِ, أَوِ الْعَطِيَّةِ, أَوْ الْمُسَاعَدَةِ, أَوِ الْإِعَانَةِ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ, وَالْعِبْرَةُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَمَخْبَرِهِ, وَإِنْ زُيِّنَ فِي شَكْلِهِ وَمَظْهَرِهِ.

  • احذروا السحر والسحرة

    احذروا السحر والسحرة

    *فَإِنَّ مِنْ خَيْرِ الْجِهَادِ وَأَفْضَلِهِ: الْقِيَامُ عَلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ, وَالْوُقُوفُ فِي نُحُورِهِمْ, كَالسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ وَالْمُشَعْوِذِينَ؛ الذِّينَ اسْتَطَارَ شَرَرُهُمْ, وَعَظُمَ أَمْرُهُمْ, وَكَثُرَ خَطَرُهُمْ, وَلَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى الْمُجْرِمِينَ بِسَقَرَ, وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّاحِرَ كَافِرٌ, فَقَالَ: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) وَذَهَبَ إِلَى كُفْرِ السَّاحِرِ وَخُرُوجِهِ مِنَ الدِّينِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ, وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ – رَحِمَهُ اللهُ – أَنَّ السِّحْرَ أَحَدُ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: وَمِنْهُ الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ. وَالصَّرْفُ: عَمَلُ السِّحْرِ لِصَرْفِ مَنْ يُحِبُّ إِلَى بُغْضِهِ. وَالْعَطْفُ عَمَلُ السِّحْرِ لِعَطْفِ مَنْ يُبْغِضُ إِلَى حُبِّهِ مِنْ زَوْجٍ وَغَيْرِهِ, فَالْحَذَرُ الْحَذَرُ – أَيُّهَا الْمُوَحِّدُونَ – مِنَ السَّحَرَةِ الْمُخَالِفِينَ لِمَا بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ يُفْسِدُونَ, وَلَا يُصْلِحُونَ, وَيَضُرُّونَ, وَلَا يَنْفَعُونَ. وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى قَتْلِ السَّاحِرِ, وَالسَّاحِرَةِ؛ لِعِظَمِ شَرِّهِمْ, فَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ بَجَالَةَ بْنَ عَبْدَةَ, قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: (اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ) وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا: أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيَةٍ لَهَا سَحَرَتْهَا. وَصَحَّ قَتْلُ السَّاحِرِ أَيْضًا عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَلَا يُعْلَمُ لِهَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ السَّحْرُ, وَتَسَاهَلَ الْكَثِيرُ فِي الذَّهَابِ إِلَيْهِمْ, وَطَلَبِ الشِّفَاءِ عَلَى أَيْدِيِهِمْ, وَيَزْعُمُونَ أنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْأَسْبَابِ, وَهَذَا مُنكَرٌ عَظِيمٌ, وَخَطَرٌ جَسِيمٌ, يُخَلْخِلُ الْعَقَائِدَ, وَيُزَعْزِعُ الْإِيمَانَ, وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وَالسَّاحِرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَاهِنِ, فَمَنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيءٍ لَمْ تَقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً, وَأَمَّا إِنْ صَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَهَذَا كُفْرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ فَقَد كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ) وَأَمَّا زَعْمُ الْبَعْضِ بِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ, فَهَذَا غَلَطٌ كَبِيرٌ لِأَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ شَرْعِيٍّ, وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلثَّابِتِ عَنَ النَّبِي ِّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَدْ جَاءَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ، فَقَالَ: (هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وَالنُّشْرَةُ هِيَ: حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ؛ فَإِذَا كَانَ حَلُّهُ عَنْ طَرِيقِ السِّحْرِ, فَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ بِالْمَنْعِ, وَأَمَّا إِنْ كَانَ حَلُّ السِّحْرِ عَنْ طَرِيقِ الرُّقَى الشَّرْعِيَّةِ, بِكَلَامِ اللهِ, وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, وَالْأَدْوِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ, فَهَذَا مَشْرُوعٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وَ (مِنْ) هُنَا بَيَانِيَّةٌ, فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ شِفَاءٌ, وَدَوَاءٌ لِكُلِّ دَاءٍ, فَمَنْ آمَنَ بِهِ, وَأَحَلَّ حَلَالَهُ, وَحَرَّمَ حَرَامَهُ, انْتَفَعَ بِهِ انْتِفَاعًا كَبِيرًا, وَعَلَى الْمُبْتَلَى بِالسِّحْرِ مُلَازَمَةُ الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ, وَتَحَرِّي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ, كَثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ, وَلَحَظَاتِ السُّجُودِ, وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ, فَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ أَحْرَى فِي الْإِجَابَةِ مِنْ غَيْرِهَا, مَعَ التَّطَبُّبِ بِالرُّقَى الشَّرْعِيَّةِ, وَالْأَدْوِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُبَاحَةِ, ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ قَدْ يَطُولُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤمِنِ أَحْيَانًا تَكْفِيرًا لِسَيِّئَاتِهِ, وَرِفْعَةً فِي دَرَجَاتِهِ, وَامْتِحَانًا لَهُ, فَلَا يَيِّأَسِ الْمُؤْمِنُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ (إِنَّهُ لَا يَيَّأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).

    *فَأَمَّا مَنْ عَافَاهُ اللهُ مِنَ السِّحْرِ, وَلَمْ يُصَبْ بِهِ؛ فَعَلَيْهِ الْاحْتِرَازُ مِنْهُ, وَاتِّقَاءُ شَرِّهِ, بِالْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ, مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً, وَقِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ, وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ, دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ, وَإِنْ تَيَسَّرَ التَّصَبُّحُ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ, مِنْ تَمْرِ الْعَجْوَةِ فَهَذَا سَبَبٌ شَرْعِيٌ, وَحِصْنٌ حَصِينٌ, مِنْ كُلِّ سَاحِرٍ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ تَمْرِ الْعَجْوَةِ, لَمْ يُصِبْهِ سُمٌ, وَلَا سِحْرٌ) وَقَدْ اشْتَرَطَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي التَّمْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمْرِ الْعَجْوَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ, وَلَكِنْ ذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ العَجْوَةِ, خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ, فَلَوْ تَصَبَّحَ بِغَيْرِ تَمْرِ الْعَجْوَةِ مِنَ التَّمْرِ نَفَعَ, وَإِنْ كَانَ تَمْرُ الْعَجْوَةِ أَكْثَرُ نَفْعًا, وَتَأْثِيرًا, وَبَرَكَةً, إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ التَّأْثِيرَ فِي غَيْرِهِ, وَاللهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُ, وَيُعْلِيَ كَلَمَتَهُ, وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَيْدِيِ السَّحَرَةِ, وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ.