*فَقَدْ أَظَلَّنَا شَهْرُ الرَّحَمَاتِ, وَالْبَرَكَاتِ, شَهْرُ الطَّاعَاتِ, وَالصَّدَقَاتِ، شَهْرٌ يُجَازِيِ اللهُ فِيهِ عَلَى الْقَلَيْلِ, بِالْكَثِيرِ، قَالَ : (قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي, وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) أَيْ أَنَّ أَجْرَهُ عَظِيمٌ تَكَفَّلَ اللهُ بِهِ لِعِبَادِهِ الصَّائِمِينَ الْمُخْلِصِينَ, وَقَالَ : (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَقَالَ : (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, غُفِرَ لَهُ ما تقدمَ من ذنبهِ) وَقَالَ : (مَنْ قامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَمَعْنَى: (إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا) أَيْ إِيمَانًا باللهِ, واحتسابًا للإجر.
وَسَأَقِفُ بِكُمْ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الشَّهْرِ: فَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ, أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ, وَهُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يُشْفَى مِنْهُ الْمَرِيضُ, إِمَّا بِكَلَامِ الْأَطِبَّاءِ, أَوْ بِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ طَبِيعَةِ هَذَا الْمَرَضِ, فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ, وَيُطْعِم ُعَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا: رُبْعَ صَاعٍ مِنْ أُرْزٍ, أَوْ حِنْطَةٍ, أَوْ نِصْفَ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأُرْزِ, وَالْحِنْطَةِ مِنَ الطَّعَامِ, وَإِنْ جَمَعَ مَسَاكِينَ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا فَأَشْبَعَهُمْ, فَلَا بَأْسَ, فِفِي الدَّارَ قُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ عَامًا, فَصَنَعَ جَفْنَةَ ثَرِيدٍ وَدَعَا إِلَيْهَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ.
وَيَجِبُ الْفِطْرُ عَلَى الْمَرِيضِ إِذَا كَانَ يَضُرُّهُ الصِّيَامُ, وَالْمَرَضُ الَّذِي يُبَاحُ مَعَهُ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الصِّيَامُ, أَوْ يُؤَخِّرُ بُرْءَ الْمَرِيضِ, أَوْ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ؛ إِلَّا أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ, فَيُسْتَحَبُ لَهُ الْفِطْرُ, فَإِنْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ بِحَيْثُ يُخْشَى عَلَيْهِ الضَّرَرُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الصَّومُ, بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ.
وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُفِقْ أَيْ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ, فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَلَا الْإِطْعَامُ, فَإِنْ أَفَاقَ جُزْءًا مِنَ النَّهَارِ, كَأَنْ يُفِيقَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, فَأَمْسَكَ مَا تَبَقَّى مِنَ الْيَوْمِ صَحَّ صَوْمُهُ, وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَمَن نَوَى الْإِفْطَارَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا؛ لِأنَّهُ قَدْ قَطَعَ نِيَّةَ الصَّوْمِ, فَإِنْ تَرَدَّدَ فِي قَطْعِ النِّيَّةِ فَالرَّاجِحُ: أَنَّهُ لَا يَنْقطعُ صَوْمُهُ, وَصَوْمُهُ صَحِيحٌ.
وَمَن اسْتَقَاءَ مُتَعَمِّدًا, وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا, فَإِنَّهُ يُفْطِرُ بِذَلِكَ, وَأَمَّا مَن ذَرَعَهُ الْقَئُّ وَلَوْ شَيْئًا كَثِيرًا, فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ.
وَيُفْطِرُ الصَّائِمُ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ, ذَاكِرًا أَنَّهُ صَائِمٌ, وَمُتَعَمِّدًا لِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ, أَمَّا إِنِ احْتَلَمَ فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ.
وَيُفْطِرُ الصَّائِمُ كّذَلِكَ إِنِ ابْتَلَعَ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِنَ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَكَلَ, وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا يَسِيرًا, أَمَّا مَا يَكُونُ فِي الْفَمِ, ثُمَّ يَجْرِي طَبِيعَةً مَعَ الرِّيقِ فَلَا يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ.
وَيَجِبُ عَلَى الصَّائمِ الْاسْتِنَشَاقُ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ, وَيُنْهَى عَنِ المُبَالَغَةِ فِي سَحْبِ الْمَاءِ إِلَى أَعْلَى الْأَنْفِ, فَإِنْ بَالَغَ فِي الْاسْتِنْشَاقِ, ذَاكِرًا النَّهْيَ عَنْهُ, فَدَخَلَ شَيءٌ مِنَ الْمَاءِ إِلَى حَلْقِهِ بَطَلَ صَوْمُهُ.
وَيَفْسُدُ الصُّوْمُ بِالْجِمَاعِ, وَكَفَّارَتُهُ: عِتْقُ رَقَبَةٍ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا, وَإِنْ جَامَعَ الصَّائِمُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ, فَأَنْزَلَ, فَصِيَامُهُ فَاسِدٌ, وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ, وَلَا يَقْضِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ إِفْسَادَهُمَا, وَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى, وَيَسْتَكْثِرَ مِنَ النَّوَافِلِ.
وَلِلصَّائِمِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ, وَتَكْفِيهِ هَذِهِ النِّيَّةُ عَنِ الشَّهْرِ كَامِلًا, إِذَا لَمْ يَقْطَعْهَا بِفْطْرٍ, بِسَبَبِ سَفَرٍ, أَوْ مَرَضٍ, أَوْ نَحْوِهِمَا, فَإِنْ قَطَعَهَا, فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ النِّيَّةَ مِن جَدِيدٍ.
*فَالصَّائِمُ لَا يُفْطِرُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَكْلٌ, أَوْ شُرْبٌ, مِمَّا يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ, أَوْ إِلَى الدَّمِ فَيُغَذِّيْ الْبَدَنَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى, قَالَ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) وَعَلَيْهِ؛ فَالْإِبَرُ, وَالْمَحَالِيلُ الْمُغَذِّيَةُ مُفَطِّرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَصِلُ إِلَى الْبَدَنِ فَتُغَذِّيهِ, ومِثلُ ذَلِكَ الْإِبْرَةُ الَّتِي تُعْطَى لِمَنْ عِنْدَهُ نَقْصٌ فِي السُّكَّرِ, وَهِيَ مِنَ الْجُلُوكُوزِ فَيُفْطِرُ بَهَا, أَمَّا الْإِبَرُ الْمُدَاوِيَةُ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهَا, إِذَا كَانَ الْأَطِبَّاءُ يُقَرِّرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْإبْرَةَ لَيْسَ فِيهَا غِذَاءٌ, وَإِنَّمَا هِيَ دَوَاءٌ كَالْإِبْرَةِ الَّتِي تُعْطَى لِمَن عِنْدَهُ زِيَادَةٌ فِي السُّكَّرِ, أَوِ الْإِبَرِ الْخَافِضَةِ لِلْحَرَارَةِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَبْشِرُوا بِمَوْعُودِ اللهِ، فَرَبُّنَا غَفُورٌ, رَحِيمٌ, يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ عِبَادِهِ, وَيَغْفِرُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ, وَيُجَازِي عَلَى الْعَمَلِ الْيَسِيرِ, بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، قَدْ أَعَدَّ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ, وَجَرَتْ أَنْهَارُهَا, وَتَزَيَّنَتْ حُورُهَا, وَاكْتَمَلَ نَعِيمُهَا, أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
اللَّهُمْ أَعِنَّا عَلَى صِيامِ رَمَضَانَ, وَقِيامِهِ, وَتَقَبَّلْهُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.