*فَلَقدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كَثِيرَةَ التَّقَلُّبِ, فَلَا تَسْتَقِيمُ لِأَحَدٍ عَلَى حَالٍ, وَلَا تَصْفُو لِمَخْلُوقٍ مِنَ الْكَدَرِ، فَفِيهَا خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَصَلَاحٌ وَفَسَادٌ، وَسُرورٌ وَحُزْنٌ، وَأَمَلٌ وَيَأْسٌ، وَيَأْتِي الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ كَشُعَاعَيْنِ, يُضِيئَانِ دَيَاجِيرَ الظَّلَامِ، وَيَشُقَّانِ دُرُوبَ الْحَيَاةِ لِلْأَنَامِ، وَيَبْعَثَانِ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ: الْجِدَّ, وَالْمُثُابَرَةَ، وَيُلَقِّنَانِهَا: الْجَلَدَ, وَالْمُصَابَرَةَ، فَإِنَّ الَّذِي يُغْرِيْ التَّاجِرَ بِالْأَسْفَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ: أَمَلُهُ فِي الْأَرْبَاحِ، وَالَّذِي يَبْعَثُ الطَّالِبَ إِلَى الْجِدِّ وَالْمُثُابَرَةِ: أَمَلُهُ فِي النَّجَاحِ، وَالَّذِي يُحَفِّزُ الْجُنْدِيَّ إِلَى الْاسْتِبْسَالِ فِي أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ: أَمَلُهُ فِي النَّصْرِ، وَالَّذِي يُحَبِّبُ إِلَى الْمَرِيضِ الدَّوَاءَ الْمُرَّ: أَمَلُهُ فِي الشِّفَاءِ، وَالَّذِي يَدْعُو الْمُؤْمِنَ أَنْ يُخَالِفَ هَوَاهُ وَيُطِيعَ مَوْلَاهُ: أَمَلُهُ فِي الْفَوْزِ بِجَنَّتِهِ, فَالْمُؤْمِنُ يُلَاقِي شَدَائِدَ الدُّنْيَا بِقَلْبٍ مُطْمَئِنٍ، وَوَجْهٍ مُسْتَبْشِرٍ، وَثَغْرٍ بَاسِمٍ، وَأَمَلٍ عَرِيضٍ، فَإِذَا جَاهَدَ كَانَ وَاثِقًا بِالنَّصْرِ، وَإِذَا ادْلَهَمَّتِ الْخُطُوبُ عَلَيْهِ, لَمْ يَنقطِعْ أَمَلُهُ فِي تَبَدُّلِ الْعُسْرِ إِلَى يُسْرٍ، وَإِذَا اقْتَرَفَ ذَنْبًا لَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ, تَعَلُّقًا وَأَمَلًا بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَىَ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فَبِالْأَمَلِ يَذُوقُ الْإِنْسَانُ طَعْمَ السَّعَادَةِ، وَبِالتَّفَاؤُلِ يُحِسُّ بِبَهْجَةِ الْحَيَاةِ.
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بِالْآمَـــــــالِ أَرْقُبُهَا مَا أضْيَقَ الْعَيْشَ لَــَوْلَا فُسْحَةُ الْأَمَلِ
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ حَقِيقَةَ الْأَمَلِ, لَا تَأْتِي مِنْ فَرَاغٍ, كَمَا أَنَّ التَّفَاؤُلَ لَا يَنْشَأُ مِنْ عَدَمٍ، وَلَكِنَّهُمَا وَلِيدَا الْإِيمَانِ الْعَمِيقِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالْمَعْرَفَةِ بِسُنَنِهِ وَنَوَامِيسِهِ فِي الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُصَرِّفُ الْأُمُورَ كَيْفَ يَشَاءُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَيُسَيِّرُهَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَيُبَدِّلُ مِنْ بَعْدِ الْخَوْفِ أَمْنًا، وَمِنْ بَعْدِ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَيَجْعَلُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ فَرَجًا, وَمِنْ كُلِّ هَمِّ مَخْرَجًا، وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ عَلَى خَيْرٍ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ, وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ, شَكَرَ, فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ, صَبَرَ, فَكَانَ خَيْرًا له) فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَفَائِلِ، وَبَيْنَ حَالِ الْمُتَشَائِمِ الَّذِي لَا يَرَى فِي الْوُجُودِ إِلَّا الظَّلَامَ وَالتعَّاسَةَ وَالشَّقَاءَ, وَجَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ أَوْسَعَ النَّاسِ أَمَلًا وَأَكْثَرَهُمْ تَفَاؤُلًا، فهَذا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْنَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ, وَعَلَى صَاحِبِهِ الطَّلَبُ, أَيَّامَ الْهِجْرةِ, إِلَى حَدِّ أَنْ وَقَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى بَابِ الْغَارِ, يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلُغَةِ الْوَاثِقِ بِرَبِّهِ تَعَالَى: (مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثالثُهُمَا) وَهَذَا الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ صَارَ شَيْخًا كَبِيرًا, وَلَمْ يُرْزَقْ بَعْدُ بِوَلَدٍ, فَيَدْفَعُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ, أَنْ يَدْعُوَهُ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فوَهَبَ اللهُ لَهُ إِسْمَاعِيلَ, وَإِسْحَاقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدَ ابْنَهُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَخَاهُ، فَلَم يَتَسَرَّبْ إِلَى قَلْبِهِ الْيَأْسُ, وَلَا سَرَى فِي عُرُوقِهِ الْقُنُوطُ، بَلْ أَمَّلَ, وَرَجَا, وَقَالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وَمَا أَجَملَهُ مِنْ أَمَلٍ, تُعَزِّزُهُ الثِّقَةُ بِاللهِ تَعَالَى حِينَ قَالَ: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: قَدْ بَشَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْتِصَارِ الْإِسْلَامِ وَظُهُورِهِ, مَهْمَا تَكَالَبَ عَلَيْهِ الْأَعْدَاءُ, وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْخُصُومُ؛ فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ, مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ, وَلَا وَبَرٍ, إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ, بِعِزِّ عَزِيزٍ, أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الكفرَ) فَأْبْشِرُوا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَوْعُودِ رَبِّكُمْ, وَأَمِّلُوا, وَاعْمَلُوا صَالِحًا, فَإِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ, وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
*فَإِنَّ الَّذينَ يُحْسِنونَ صِنَاعَةَ الْحَيَاةِ، وَيُتْقِنُونَ صِيَاغَةَ التَّارِيخِ، هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ أَمَلًا, وَتَفَاؤُلًا، وَأَقَلُّهُمْ يَأْسًا, وَتَشَاؤُمًا, وَإِنَّ الْمُتَشَائِمِينَ لَا يَصْنَعُونَ حَضَارَةً، وَلَا يَبْنُونَ وَطَنًا، وَلَا يَنْصُرُونَ دِينًا، وَلَا يُعَمِّرُونَ دُنْيًا, فَكُونُوا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمَلِ وَالتَّفَاؤُلِ, وَإِيَّاكُمْ وَالْيَأْسَ وَأَهْلَهُ، فَإِنَّهُ يُطْفِئُ جَذْوَةَ الْأَمَلِ فِي النُّفُوسِ، وَيَقْطَعُ خُيُوطَ الرَّجَاءِ مِنَ الْقُلُوبِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ, وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ, وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ, وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ.
أَلَا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْحَيَاةَ قَصِيرَةٌ فَلَا تُقَصِّرُوهَا بِالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَلَا تَحْمِلُوا الْأَرْضَ فَوْقَ رُؤُوسِكُمْ, وَقَدْ خَلَقَهَا اللهُ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَلَا تَلْعَنُوا الظَّلَامَ, بَلْ أَوْقِدُوا لِتَبْدِيدِهِ الْأَضَوَاءَ وَالشُمُوعَ، وَلَا تُنَغِّصُوا عَيْشَكُمْ بِكَدَرِ الْحَيَاةِ, فَإِنَّهَا هَكَذا خُلِقَتْ لَا تَصْفُو لِأَحَدٍ مِنَ الْكَدَرِ، واعلَمُوا أنَّهُ رُبَّ مِحْنَةٍ تَلِدُ مِنْحَةً، وَرُبَّ نُورٍ يَشِعُّ مِنْ كَبِدِ الظَّلَامِ، واعلَمُوا أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَأَبْشِرُوا, وَأَمِّلُوا, فَمَا بَعْدَ دَيَاجِيرِ الظَّلَامِ؛ إِلَّا فَلَقُ الصُّبْحِ الْمُشْرِقِ.
اترك تعليقاً