*فَإِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا، فَقَدْ اصْطَفَاهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَاخْتَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أُمَّةَ الْإِسْلَامِ تَشْرِيفًا, وَتَكْرِيمًا لَهَا, فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا، فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ خَصَائِصِ هَذَا الْيَوْمِ, مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ, قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّلَوَاتِ قَدْرًا، وَآكَدِهَا فَرْضًا، وَأَكْثَرِهَا ثَوَابًا، قَدْ أَوْلَاهَا الْإِسْلَامُ مَزِيدَ عِنَايَةٍ، فَحَثَّ عَلَى الْاغْتِسَالِ لَهَا، وَالتَّطَيُّبِ، وَالتَّبْكِيرِ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهَا بِأَحْسَنِ لِبَاسٍ, وَأَكْمَلِ هَيْئَةٍ، وَالدُّنُوِّ مِنَ الْإِمَامِ، وَاسْتِجْمَاعِ الْقَلْبِ لِلْاسْتِمَاعِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرِ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنَ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى, فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ, فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ, فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ, فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ, فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذَّكْرَ) وَفِي أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احْضُرُوا الْجُمُعَةَ، وَادْنُوا مِنَ الْإِمَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا) ثُمَّ إِنَّ عَلَى الْمَرْءِ إِذَا حَضَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَذَكْرٍ وَتِلَاوَةٍ لِلْقُرْآنِ، حَتَّى يَخرُجَ الْإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ أَصْغَى وَاسْتَمَعَ لِلْخُطْبَةِ، مُتَّعِظًا بِمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ آيَاتٍ, وَأَحَادِيثَ تُذَكِّرُ بِاللهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَدْعُو إِلَى التَّمَسُّكِ بِتَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ بِخُشُوعٍ وَسَكِينَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ، اشْتَغَلَ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْمَسْجِدِ, أَوْ بِرَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ, وَتَأْخِيرُهَا إِلَى الْبَيْتِ أَفْضَلُ؛ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَمْنَ حَرِصَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بِنَيَّةٍ خَالِصَةٍ فحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَنَالَ فَضْلَ هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ, وَأَنْ يَحْظَى بِثَوَابِهِ الْعَظِيمِ, فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ, ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ, فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا فِي فَوَاتِ أَجْرِ الْجُمُعَةِ, أَوْ نُقْصَانِ ثَوَابِهَا كَالتَّأَخُّرِ فِي الذَّهَابِ إِلَيْهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، أَوْ إِشْغَالِ الْمُصَلِّينَ بِتَخَطِّي رِقَابِهِمْ، فَقَدْ رَأَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَجُلًا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِ: (اجْلِسْ, فَقَدَ آذَيْتَ وَآنَيْتَ) وَلْيَحْذَرِ الْمُصَلِّي كَذَلِكَ مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَى غَيْرِهِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ, أَوْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِلصَّحَابَةِ حِينَمَا عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ: (لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ) أَلَا وَإِنَّ مِنَ الْحِرْمَانِ, وَقِلَّةِ الْبَصِيرَةِ أَنْ يَنْشَغَلَ الْمَرْءُ عَنِ الْخُطْبَةِ بِحَدِيثٍ, أَوْ عَبَثٍ بِشَيءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَفُوتُهُ بِذَلِكَ ثَوَابُ الْجُمُعَةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا) وَعَلَى الْمُصَلِّي إِذَا جَاءَ وَالْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ دُخُولِ الْإِمَامِ, أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ, وَلَا يَنْتَظِرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَذَانِهِ؛ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ خَلْفَ الْمُؤَذِّنِ سُنَّةٌ, وَاسْتِمَاعَ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ, وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّنَّةِ.
*فَإِنَّ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ أَنَّ يَتَخَلَّفَ الْمُسْلِمُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ, فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ, أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ, ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا؛ الْإِكْثَارَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) وَفِي الْبَيْهَقِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ).
أَلَا وَإِنَّ مِمَّا شُرِعَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ كَذَلِكَ قِرَاءَةَ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَفِي النَّسَائِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ).